هل سيتمكن الأردن من تجاوز حالة الجمود السياسي من خلال إنشاء قوى سياسية وطنية تمثل الشعب بدلاً من الاعتماد على الترتيبات الخارجية أو اتفاقيات المانحين؟

علياء الكايد
في الذكرى الثانية لمئوية تأسيس الدولة الأردنية، يطفو السؤال الذي ظل معلقاً فوق رؤوس الأجيال، إلى أين نتجه؟ ومن نريد أن نكون؟ لم يعد هذا السؤال ترفاً فكرياً أو تاريخياً، بل صار سؤالاً متصلاً بالبقاء السياسي وهويته الوطنية التي طال انتظار حسمها، بعد أن بقي الأردن لعقود طويلة أسير لحظة تأسيس مرتبكة، لم تحسم معركتها مع ذاتها، ولم تجرؤ على إعادة تعريف نفسها خارج شروط اللحظة الوظيفية التي وُلدت فيها.
لقد تأسست الدولة الأردنية في لحظة جغرافية قسرية صنعتها خرائط سايكس–بيكو، كمنتج وظيفي ملحق بالتوازنات الدولية الكبرى، لا كمشروع وطني متكامل يستند إلى تعاقد اجتماعي واضح وسردية سياسية مستقلة. ورغم أن الدولة صمدت وتطورت وأصبحت واقعاً سياسياً قائماً بذاته، إلا أن معركة صقلها ظلت مؤجلة، وكأنها قنبلة موقوتة تنتظر انفجارها في لحظة الحقيقة؛ تلك اللحظة التي تفرض علينا اليوم وبقسوة ، أن نبلور مفهوم الدولة ذات الجذور التاريخية، التي تمتلك سيادتها ومشروعها الوطني المستقل في إطارها القومي، وفي حدود مصالحها وترابط مكوناتها من سلطة وشعب ووطن، بحيث تتشكل علاقاتها مع دول الإقليم والعالم على أسس راسخة ومن موقع الندية لا التبعية.
وفي قلب هذه الإشكالية التاريخية، يبرز الخطر الأكبر الذي يواجه الأردن اليوم؛ ليس فقط في مديونيته المتصاعدة ولا اختناقه الاقتصادي، بل افتقد إلى المشروع السياسي الوطني المستقل القادر على إعادة ترسيم هويته كدولة شعب واحد، لا كدولة مكونات متفرقة من عشائر وقبائل ومناطق ومكونات يسهل على السلطة توظيفها أو تجاوزها حين تشاء، لتبقى في خدمة لحظة وظيفية مستمرة. وما يُطرح من شعارات وعناوين تحت مسميات الحداثة والمواطنة والانفتاح، لم يكن سوى أدوات لغوية مموهة لتمرير مشاريع تفكيك الهويات، وإعادة هندسة المجتمع الأردني بما يتناسب مع خرائط سياسية لا تصب في مصلحة الدولة ولا في مصلحة الشعب الأردني.
وفي صلب هذه الأزمة يقف قانون الانتخاب كأخطر أدوات إعادة إنتاج الأزمة لا حلها. لقد كان قانون الصوت الواحد، وكل القوانين التي تفرعت عنه، أداة مدروسة للتغطية والالتفاف على إرادة الشعب ووحدته، وعلى كل ما ينطوي على تحول ديمقراطي حقيقي، ولإبقاء المجتمع الأردني في حالة شلل سياسي دائم، وضمان عدم إفراز قوى سياسية حقيقية قادرة على حمل مشروع سياسي وطني مستقل. ولهذا، فإن معركة قانون الانتخاب ليست معركة مقاعد ولا معركة صفقات سياسية عابرة، بل هي معركة مع التحديث السياسي الحقيقي الذي يبلور طبيعة الدولة وينير الطريق لمستقبلها.
فأي قانون انتخاب جديد لا يُنتج قوى سياسية وطنية حقيقية نابعة من الشعب الأردني، لا من هندسات فوقية ولا من صفقات غرف المانحين، هو استمرار للوظيفة، وليس انتقالاً نحو الدولة. فلا يمكن للأردن أن ينتقل من كونه دولة وسطى تُدار بوصاية الخارج، إلى دولة مكتملة السيادة والقرار، دون قانون انتخاب حر يُعيد إخراج السلطة من رحم الشعب لا من مكاتب الانتداب السياسي الحديث.
لكن هذه المعركة لا يمكن اختزالها في القانون وحده، ما لم تُخض بالتوازي مع معركة استقلال القرار السياسي والاقتصادي. فكيف يمكن لدولة تُدار موازناتها عبر شروط صندوق النقد واتفاقيات الغاز والماء المفروضة، أن تُعيد تعريف نفسها كدولة ذات سيادة؟ إن المعركة تبدأ من قانون الانتخاب لكنها لا تنتهي عنده، بل تمتد إلى عمق القرار السياسي، إلى تحرير الإرادة الوطنية من كل وصاية خارجية.
اليوم، لم يعد أمام الأردنيين خيار بين نظام انتخابي وآخر، بل بين أن يتحولوا إلى شعب يُعيد صناعة تاريخه ومستقبله ويُمسك لحظة التأسيس السياسي الثانية بيده، أو أن يُترك مرة أخرى كجغرافيا سائبة يُعاد تعريفها وفق شروط صفقات الآخرين. إنها معركة العقل الأردني مع ذاته، ومعركة إعادة إنتاج الدولة الأردنية من داخلها، كهوية سياسية وطنية مستقلة، أو أن نظل كما نحن: دولة بلا مشروع، شعب بلا تمثيل، وطن بلا تعريف.
كاتبة اردنية