عبد الحكيم العياط: المغرب وصناعة السيارات… محرك للتنمية أم خطر داهم؟

عبد الحكيم العياط
في خضم التحولات الاقتصادية العالمية، راهن المغرب بكل ثقله على توطين صناعة السيارات باعتبارها رافعة للتنمية ومصدراً رئيسياً لخلق فرص الشغل وجلب العملة الصعبة. وبالفعل، أصبح قطاع السيارات يحتل الصدارة بين القطاعات المصدرة، متقدماً على الفوسفاط والمنتجات الفلاحية. بحسب معطيات وزارة الصناعة والتجارة، بلغ حجم صادرات قطاع السيارات المغربي سنة 2023 حوالي 140 مليار درهم، مسجلاً نمواً يناهز 36% مقارنة بسنة 2022. كما أن المغرب يحتل حالياً المرتبة الأولى إفريقيا في إنتاج السيارات، بطاقة إنتاجية تقارب 700 ألف وحدة سنوياً بين مصنعي “رونو” بطنجة والدار البيضاء، و”ستيلانتيس” بالقنيطرة.
غير أن وراء هذه النجاحات الظاهرة، يختبئ سؤال جوهري يفرض نفسه بإلحاح: هل يقوم المغرب ببناء اقتصاد متوازن ومستدام، أم أنه يسير نحو مصير شبيه بما حدث لمدينة ديترويت الأمريكية؟
ديترويت، التي كانت في عز مجدها خلال منتصف القرن العشرين عاصمة صناعة السيارات في العالم، انهارت بشكل مدوٍ حين فقدت قاعدة صناعتها الأساسية أمام منافسة شرسة من آسيا، وانسحبت كبريات الشركات منها، متسببة في إفلاس المدينة سنة 2013، وهو ما اعتُبر أكبر إفلاس بلدي في تاريخ الولايات المتحدة. السبب لم يكن فقط تراجع صناعة السيارات، بل أيضاً هشاشة النسيج الاقتصادي الذي تمحور حول قطاع واحد دون تنويع حقيقي أو قدرة على التكيف مع التغيرات.
وفي هذا السياق، يظل الخوف مشروعاً من تكرار سيناريو الاعتماد المفرط على قطاع واحد. فاقتصاد التنمية لا يقوم فقط على جلب الاستثمار، بل على تمتين الروابط بين القطاعات، وتوزيع القيمة المضافة على سلاسل متعددة. إن قوة الاقتصاد الوطني تقاس بمدى قدرته على دمج التكنولوجيا، وتشجيع المبادرات المحلية، وتمكين المقاولات الصغرى والمتوسطة من لعب دور نشط في سلاسل التوريد.
اليوم، رغم ما حققه المغرب من إنجازات في جذب الشركات الكبرى، يظل الخوف قائماً من أن يتحول الاعتماد المفرط على قطاع السيارات إلى نقطة ضعف قاتلة مستقبلاً. فالصناعة المغربية، رغم تطورها، لا تزال مرتبطة بشكل عضوي بالمراكز الأوروبية، خصوصاً فرنسا وإسبانيا، وتعتمد بشكل كبير على صادرات موجهة نحو الاتحاد الأوروبي، الذي استقبل أكثر من 86% من صادرات السيارات المغربية سنة 2023 وفق إحصائيات مكتب الصرف.
كما أن التحولات العميقة في قطاع السيارات العالمي تطرح تحديات مقلقة. مع الانتقال المتسارع نحو السيارات الكهربائية، تبرز تساؤلات حول قدرة المغرب على التأقلم. فحسب تقرير وكالة بلومبرغ لعام 2024، من المتوقع أن تمثل السيارات الكهربائية 60% من المبيعات العالمية بحلول 2030. ورغم أن المغرب بدأ يشجع الاستثمار في مكونات السيارات الكهربائية، مثل البطاريات وأنظمة الدفع، إلا أن بنيته التحتية ما زالت في بداياتها مقارنة بالمنافسين العالميين.
وفي ظل هذا التحول، تطرح تساؤلات حول استراتيجية المغرب المستقبلية في البحث والتطوير (R&D) في مجال السيارات الذكية والكهربائية. إذ إن الاقتصار على جذب الاستثمارات دون تطوير بيئة بحثية قوية داخل الجامعات ومراكز التكنولوجيا قد يحرم البلاد من فرص حقيقية للريادة في هذا السوق الصاعد. وهنا تبرز أهمية دعم الشراكات بين القطاعين العام والخاص في مجال الابتكار الصناعي.
من جانب آخر، يعتمد المغرب بشدة على تصنيع السيارات الاقتصادية منخفضة الكلفة مثل “داسيا سانديرو”، التي تواجه مستقبلاً غامضاً مع تغير تفضيلات المستهلكين نحو نماذج أكثر تطوراً وأقل تلويثاً. أي تراجع في الطلب الأوروبي على هذا النوع من السيارات قد يضرب مباشرة قاعدة الإنتاج الوطني.
وحتى على مستوى توفير فرص الشغل، فإن المعطيات الرسمية تكشف محدودية نسبية. فعلى الرغم من ضخامة الاستثمارات، لم يوفر القطاع سوى حوالي 180 ألف وظيفة مباشرة حتى سنة 2023، حسب معطيات وزارة الصناعة، وهي أرقام مهمة ولكنها تبقى غير كافية لاستيعاب البطالة المرتفعة، خصوصاً وسط الشباب خريجي الجامعات والمعاهد التقنية.
وعلى مستوى تكلفة اليد العاملة، تكشف التقارير الدولية عن مفارقة لافتة. فبحسب دراسة صادرة عن شركة “أوليفر وايمان”، لا تتجاوز كلفة اليد العاملة في قطاع السيارات بالمغرب 106 دولارات فقط لكل سيارة منتَجة، وهي من بين الأدنى على الصعيد العالمي. للمقارنة، تصل هذه الكلفة إلى حوالي 585 دولاراً في الصين، وتفوق 3,000 دولار في ألمانيا. ورغم أن هذا المعطى يُعد ميزة تنافسية لجذب الاستثمارات، إلا أنه يطرح تساؤلات جوهرية حول العدالة الاجتماعية ومحدودية الأثر الاقتصادي المباشر على العمال. فضعف الأجور قد يُساهم في استقرار الشركات على المدى القصير، لكنه لا يضمن استدامة اجتماعية ولا تطويراً فعلياً للرأسمال البشري الوطني.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن غالبية مناصب الشغل المتاحة تندرج ضمن سلاسل الإنتاج والتجميع، وهي مناصب قابلة للأتمتة مستقبلاً مع تطور الذكاء الصناعي. مما يعني أن الحماية الاجتماعية لهؤلاء العاملين، وبرامج إعادة التأهيل المستمر، يجب أن تصبح أولوية في السياسات الصناعية المقبلة حتى لا تتحول مكاسب اليوم إلى هشاشة اجتماعية غداً.
يطرح هذا الوضع تساؤلات ملحة حول مدى اندماج صناعة السيارات بالمغرب في سلاسل القيمة العالمية بشكل مستدام، بعيداً عن مجرد لعب دور الورشة الإنتاجية منخفضة التكلفة. فحتى اليوم، تتركز القيمة المضافة الكبرى في تصميم السيارات وتطويرها في بلدان الشركات الأم، بينما تقتصر الصناعات المحلية غالباً على عمليات التركيب والتجميع وبعض الصناعات الوسيطة. ووفقاً لتقرير البنك الدولي حول الاقتصاد المغربي لسنة 2023، فإن نسبة إدماج المكونات المحلية في صناعة السيارات لم تتجاوز بعد 65%، مع هدف رسمي للوصول إلى 80% بحلول 2030، وهو تحدٍّ لا يخلو من صعوبات تقنية واستثمارية.
ومن بين العراقيل التي تحول دون رفع نسبة الإدماج المحلي، نجد محدودية النسيج الصناعي الوطني في الصناعات الدقيقة، ونقص المواد الخام الأساسية، وضعف القدرة التفاوضية للمقاولات المغربية داخل سلاسل التوريد. لذلك، فإن بلوغ الهدف المسطر يتطلب استراتيجية متكاملة لتحفيز التصنيع المحلي، بما في ذلك الحوافز الجبائية، والتكوين الموجه، ودعم تمويل البحث الصناعي.
من جهة أخرى، تثير مسألة تأهيل الرأسمال البشري تساؤلات مقلقة. فمع تسارع الثورة الصناعية الرابعة ودخول تكنولوجيات جديدة مثل الذكاء الاصطناعي والأنظمة الذاتية في قطاع السيارات، تبرز الحاجة إلى كفاءات عالية التخصص في مجالات التصميم الإلكتروني والبرمجيات الصناعية، وهي مجالات لا يزال فيها العرض التكويني الوطني محدوداً مقارنة بحجم الطلب المتوقع. وحسب تقرير للمجلس الأعلى للتربية والتكوين لسنة 2023، فإن أقل من 3% من خريجي الجامعات والمعاهد العليا بالمغرب يتخصصون في مجالات تكنولوجية متقدمة ترتبط مباشرة بالصناعة المستقبلية.
علاوة على ذلك، فإن المنافسة الإقليمية الشرسة قد تشكل عامل ضغط إضافي. بلدان مثل مصر وجنوب إفريقيا بدأت بدورها في تعزيز عروضها الاستثمارية في قطاع السيارات الكهربائية والهجينة، مع تقديم تسهيلات مالية وجبائية مغرية لجذب كبريات الشركات العالمية. في هذا السياق، قد يجد المغرب نفسه في وضعية صعبة إذا لم يرفع من وتيرة تجديد استراتيجياته الصناعية، ويوسع قاعدة شراكاته التكنولوجية، ويتبنى نماذج أكثر طموحاً للانتقال نحو صناعات الجيل الجديد.
في نهاية المطاف، النجاح الحقيقي لا يُقاس فقط بحجم الاستثمارات الأجنبية أو عدد السيارات المصدرة، بل بمدى قدرة البلاد على بناء اقتصاد متنوع، مرن، وقادر على التجدد الذاتي. الرهان اليوم ليس فقط على توطين مصانع السيارات، بل على توطين الإبداع، وتطوير منظومة البحث العلمي، وتحفيز إنتاج المكونات محلياً، حتى لا يجد المغرب نفسه، بعد سنوات من الآن، يعيد بشكل مأساوي تجربة ديترويت بطابع مغربي.
باحث جامعي مغربي في العلوم السياسية