إسحاق أحمد البديري: ابنتي والهوية العربية!

اسحق احمد البديري
ذات يوم قريب، ونحن نعيش اعنف حرب شهدتها الارض الفلسطينية بل والعربية ايضا، خصوصا في غزة التي باتت تُباد وتُذبح كل يوم، وتُقطع اوصالها كل صباح ومساء، والموت يخيم هناك كل ساعة بل كل دقيقة، وبينما الشعب الفلسطيني يقاتل وحيدا باللحم الحي وبصدور ابناءه وبناته العارية، وينزف دما غزيرا فوق ثرى مدن وقرى غزة، وبينما هذا الشعب يستنجد وينادي وامعتصماه طلبا للنجدة، بل طلبا لمجرد البقاء على الحياة وتفادي الموت جوعا او عطشا او قتلا، ولا يجد من يغيثه او يعينه على الحياة فعلا لا بمجرد وعود براقة وكلمات معسولة لا اكثر ولا أقل .
وامام المشاهد المروعة الخارجة من غزة، ووسط هذه المأساة، جاءتني ابنتي لتقول لي بكلمات غاضبة، وملامح حزن يكتسي وجهها، ” والدي هل استطيع تغيير اسمي؟؟ ” قلت لها وانا لم افهم دوافعها، ولا فهمت مراميها، قلت لها لماذا تقولين ذلك؟. قالت والدموع في عينيها اجبني اين هي العروبة؟ التي اسميتني باسمها، اين العرب والعروبة؟ اين الامة العربية التي طالما تحدثت عنها وتغنيت بها؟ وعلمتنا ان العروبة والعرب هم الاصل والاساس، في الوقوف معنا، وكنت تدندن دائما بلاد العُرب اوطاني من يمن فتطوان، وكنت اسمعك تغني امجاد يا عرب امجاد وتتغنى بالعروبة؟؟ اين هم مما جرى ويجري في غزة؟ لحظتها فقط فهمت ماذا كانت ابنتي عروبة تقصد، وماذا كانت تعني بكلامها المفاجئ واسئلتها المنهمرة كالرصاص في وجهي، وفهمت اسباب ودواعي طلبها بتغيير اسمها .
تطلعت اليها بشبه ابتسامة، وقلت لها اتعرفين يا ابنتي قد تكونين محقة، ان التخاذل العربي الذي تشاهدينه قد اصابني بالذعر، واضفت قائلًا ” يا ابنتي ليست هذه العروبة التي عرفتها في زمان مضى، بل اكاد اقول وليس هؤلاء هم العرب – حكومات وشعوب ونخب – الذين عشت معهم وبينهم ورايتهم في احلك الظروف التي مرت بها الامة العربية كيف كانوا يتحركون ويواجهون، وصدقيني اذا قلت لك ان العروبة التي عرفتها والعرب الذين عرفتهم هم الانقياء الاطهار القابضون على الجمر في كل بلد عربي سواء من كانوا في الماضي او الذين مازالوا معنا في الحاضر لكنهم اسرى الظروف المعيشية والحياتية القاهرة التي حولتهم الى ما هم فيه الان من العجز والقهر والاذلال”.
وقلت لابنتي التي جاءتني تطلب تغيير اسمها، سوف اروي لك امثلة من زمان مضى كيف كانت العروبة التي عرفتها وكيف كان العرب الذين عرفتهم .
ان العروبة التي عرفتها هي الاحساس والشعور بالانتماء الى امة عربية واحدة، تملك وحدة اللغة ووحدة التاريخ، ووحدة المصير المشترك، ووحدة الثقافة والحضارة، ووحدة الامن القومي العربي، ووحدة المصالح المشتركة، ومن هذا المنطلق ومن هذا الايمان رايت العروبة بروحها الوثابة، وحركتها الناشطة تستقر وتترسخ في وجدان واذهان ملايين العرب من المحيط الى الخليج. ورايت العروبة التي عرفتها تندفع في حركتها على سبيل المثال في مساعدة ودعم ثورة الجزائر التي اندلعت في اول نوفمبر سنة 1954، وكيف وقف ورائها ملايين العرب شعوبا ونخب قبل الحكومات، دعما بالمال والسلاح بل واحيانا بالرجال تاكيدا وسعيا لانتصارها وطرد المستعمر الفرنسي لتنتصر ولتستقل الجزائر العربية “.
1
ان العروبة التي عرفتها ورأيتها، هي التي الهمت ودفعت جماهير الشعب العربي للوقوف الى جانب الشعب المصري خلال تصديه للعدوان الثلاثي سنة ١٩٥٦، كما حدث حين نسف ضباط من الجيش السوري محطات الضخ في خط انابيب النفط التابعة لشركة البترول العراقية التي كانت تنقل النفط من كركوك في العراق الى بانياس على البحر المتوسط واوقفوا تدفق البترول الى الدول المعتدية، وكما حدث في البحرين حين خرجت مظاهرات عارمة وحاشدة هاجم خلالها البحرينيون منازل موظفي سلاح الطيران البريطانى فى مدينة المحرق، وأشعلوا النار فى المصالح البريطانية، فى مدينة المنامة . .
ان العروبة التي عرفتها ورايتها كانت، يوم ارسلت مصر العربية قطعة من جيشها عبر البحر المتوسط الى سوريا حين ظهرت امام الساحل السوري وبدون اعلان قطعات من الاسطول المصري لتنزل لوائين من الجيش المصري معززان بالمشاة وبالمدفعية والمدرعات في ميناء اللاذقية، ليرابطوا مع اخوتهم ابناء الجيش السوري عند الحدود مع تركيا للدفاع عن سوريا ضد المحاولات التركية والاميركية التي كانت تستهدف غزو سوريا سنة 1957، وتراجع الاتراك وانكفئوا وراء حدودهم.
ورأيت العروبة التي عرفتها في ازهى معانيها وصورها في منتصف ليل 30 نيسان سنة 1960، يوم نفذ مائتين وعشرون الفا من عمال الموانئ العرب في 21 ميناءا عربيا من طنجة الى مواني ء الخليج اضرابا شاملا، استهدف منع استقبال وشحن وتفريغ وصيانة السفن الاميركية في الموانئ العربية، ردا على مقاطعة عمال ميناء نيويورك للسفينة المصرية كليوباترا في شهر نيسان سنة 1960، بتحريض من اسرائيل التي كانت سفنها وبضائعها يتم منعها من عبور قناة السويس، ويومها فيما اذكر تصاعد اضراب العمال العرب الى الحد الذي هدد فيه عمال المطارات العربية بالانضمام الى هذا الاضراب ليمنعوا هبوط او اقلاع اي طائرة اميركية، حتى عمال ميناء بومبي في الهند هددوا بالانضمام الى العمال العرب في اضرابهم، وبعد اسبوع واحد فقط من هذا الاضراب الشامل فقط وفي ليلة 6 ايار توجه عمال نيويورك وكسروا اضرابهم للسفينة كليوباترا العربية، وعادوا لتفريغ حمولتها وانتصر العمال العرب وانتصرت العروبة، يومها لم تطلق الامة العربية طلقة واحدة ولم تستخدم السلاح من مدفعية وطائرات، فقط استخدمت الامة العربية والعروبة يومها قواها الناعمة التي تمثلت في اضراب شامل لعمال الموانئ العربية من المحيط الى الخليج وفعلوا بهذا الاضراب ما يفوق عشرات المرات مما لو استخدموا السلاح، كان انتصارا بكل المعايير لامة باسرها.
لقد رأيت العروبة التي عرفتها وشاهدتها، في ابلغ صورها يوم ارسلت مصر قواتها جنوبا على بعد الاف الاميال عبر البحر الاحمر لدعم ولاسناد الثورة الوليدة في اليمن الشمالي لتنقلها من عصر الظلام الى عصر النور، ولتفتح الباب على مصراعيه امام ثوار عدن والجنوب اليمني للخلاص من الاستعمار، لم يكن ذهاب الجيش المصري الى اليمن سنة 1962 ولا كان دعم ثورة جنوب اليمن سنة 1963 سببا في تدهور الاقتصاد المصري وسببا في نكسة سنة 1967 كما اشاعوا بل ان النتيجة الايجابية المحققة هو ما شاهده العالم من اغلاق باب المندب سنة 1973 وما يشاهده عالم اليوم سنة 2024 و 2025 من سيطرة عربية على البحر الاحمر.
هذه امثلة من تحركات جرت على الارض العربية دفاعا عن قضايا العرب وامنهم القومي حتى في ايام الانتفاضة الفلسطينية الاولى سنة 1978، لم تتردد العروبة بقواها العربية الحية في دعم الانتفاضة ولعبت القوى الناعمة العربية دورا كبيرا حيث سخرت كل ما كانت تملكه من وسائل متوفرة ابتداءا من المظاهرة والمسيرة، مرورا بالكلمة والقصيدة، واتصالا بالأغنية والموسيقى والعمل المسرحي، وانتهاءا بالصورة والرسم الكريكاتيري، وجمع التبرعات واستخدام شاشات التلفزيون وشبكات الاذاعة في تعرية تصرفات الاحتلال ونشر فعاليات الانتفاضة، وبث الوعي للرأي العام العالمي خدمة لتلك الانتفاضة الباسلة واهدافها المشروعة التي اكدت حق الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال
2
وقلت لابنتي عروبة، هذا ما شاهدته وعشته صحيح ان معظم العرب، خذلوا شعبنا لكن بعضهم الاخر ما خذلوها وانت تعرفين ذلك، ان الذين ما خذلوها فعلوا ما استطاعوا وقدموا تضحيات لا نظير لها، قصدت ان
اقول، ليس العرب جاهدين وليست العروبة كلها من خذلت .
واضفت ” لا بد ان يجئ اليوم الذي تفخرين فيه بالعرب والعروبة مهما طال الزمان او قصر. احتفظي باسمك وبما يمثله من مضمون ان اجيالا عربية شاهدت ورأت ما جرى ويجري امام عيونها ولن تنسى، وسيأتي يوم تقول فيه هذه الاحيال كلمتها، بل ان اجيالا عربية جديدة ستولد من رحم امهاتها وهذه الاجيال كلها ستعرف حقيقة ما جرى وستصنع اياما جديدة زاهرة لامة عربية عظيمة سقطت على الارض في يوم ما، وسوف تعاود الوقوف على قدميها وتنهض من جديد “
واضفت قائلا لها ” يا ابنتي تذكري دوما، نحن امة عربية عظيمة لامست فيما مضى عنان السماء وكان يحسب لها الف حساب يوم تسلحت بالايمان بالله وبشتى انواع من علوم ذلك الزمان، وصنعت حضارة عظيمة وقت ان كان الاخرون سيما في اوروبا بالذات ما زالوا يعيشون وسط الظلام، وتذكري ان هذه الامة العربية مزقها اعداؤها في العصور والعقود الماضية وانزلوا ستار الظلام عليها ومن حولها، وهي لم تكد تبدأ مسيرتها النضالية في الاستقلال عن السلطنة العثمانية في مطلع القرن العشرين حتى داهمها الاستعمار الغربي بجيوشه الجرارة وادواته في المنطقة، وفي مقدمتها الحركة الصهيونية، ولم تكد ترفع اعلام الاستقلال الوطني فوق اراضيها وتخطو خطواتها الاولى نحو نهضة شاملة تستهدف بناء مجتمع جديد، حتى داهمتها اسرائيل والقوى الاستعمارية سنة ١٩٦٧ التي تواكبت مع اخطاء وقصور داخلي تراكم عبر السنين، ولم تكد الامة تنهض من جديد من هزيمة الهزيمة سنة ١٩٧٣ حتى خذلتها السياسة بكل مضامينها ومعانيها .
ووجدتني، وانا أكاد اخفي قطرات دموع تكاد تنزل من عيناي اخاطب ابنتي عروبة ” صدقيني اذا قلت لك ان مرارة الحياة والمعاناة والالام والجوع والعذاب الذي يعيشه شعبنا سيجبر امة على ان ترفع راسها وتنظر الى المستقبل وتتساءل ما الذي جرى؟ ما الذي فعلته؟ ولماذا كنت جاحدة ومقصرة بل ومهزومة ازاء شعب اعزل عظيم اعطى للدنيا وللحياة معاني التضحية والفداء ومعنى الكرامة والحرية ان اليوم الذي سيطلع فيه الفجر من رحم الظلام سياتي حتما طال الوقت ام قصر ليست تلك امنيات بل هي دروس التاريخ “
ورايتها تتطلع الى وجهي بنظرات ثاقبة ونصف ابتسامة بدت على شفتيها، وقالت هل تعتقد ذلك حقا؟ وهل أنت مؤمن بذلك؟ قلت لها بثبات نعم قدر ايماني بالله وقدر ايماني بالمقدرة الخلاقة لهذة الامة الثائرة المناضلة، صانعة الحضارة وصانعة التاريخ، وصانعة التقدم، واضفت قائلا بكلمات اقرب الى الحزم منها الى الرجاء ” ابنتي عروبة اوصيكي بالاستمرار في حمل هذا الاسم الحبيب على قلبي وعدم التخلي عنه تحت اي ظرف تمسكي باسمك “عروبة ” فهو اغلى اسم في الوجود “.ولمحت رقرقة دموع في عينيها وهي تقف امامي فيما هي تقول : هذا الاسم عروبة بكل معانيه وبما عرفته وسمعته يا ابي سيبقى معي الى اخر الدهر، لانه حقا بالنسبة لي هو ليس اغلى اسم في الوجود فحسب بل هو ابقى اسم في الوجود …..
وغادرت عروبة وامتلكت نفسي كي امنع دموعي من ان تنزل حزنا على امة سلبها اقزامها في لحظة الحقيقة حريتها من ان تطاول عنان السماء بدل ان تظل اسيرة مكبلة في القاع .