أ. د. هاني الضمور: الشعبوية: حين تصبح السياسة عرضاً تهريجياً تحت مسمى الشعب.

ا. د. هاني الضمور
هل وصل العالم إلى هذا الحد من الابتذال السياسي؟
هل تحولت السياسة إلى استعراض صاخب يُقدَّم لجماهير غاضبة، تهتف دون مساءلة، وتصفّق دون وعي؟
هذا ما يواجهنا به الباحث الأسترالي بنيامين موفيت في كتابه اللافت: “الصعود العالمي للشعبوية”.
ليس مجرد تحليل أكاديمي، بل تحذير فكري حاد يفضح ما يبدو للكثيرين خلافًا ديمقراطيًا عاديًا بين أطياف سياسية.
لا، الأمر يتجاوز ذلك: إننا نشهد تحولًا جذريًا في طبيعة السياسة نفسها.
السياسة لم تعد تُصاغ عبر الأفكار أو تُمارَس بالحجج، بل أصبحت تُؤدى كعروض مسرحية، وتُباع بأسلوب تسويقي يعتمد على الجاذبية العاطفية لا المنطق.
كلما زاد الصراخ والتهويل، زادت فرص الفوز بالتصفيق والسلطة.
موفيت يوضح أن الشعبوية ليست مجرد موجة عابرة، بل أسلوب مستمر وخطير يقوم على خلق الانقسام: “نحن الشعب” ضد “هم النخبة”.
هذا التبسيط المخلّ للواقع، رغم هشاشته المنطقية، يعمل بفعالية.
لأن الزعيم الشعبوي لا يقدم برنامجًا بل عرضًا، لا يناقش بل يهيّج، لا يخاطب العقل بل يُداعب الغرائز.
والأخطر؟
أن هذا النمط من الخطاب أصبح عدوى عالمية.
يتغذى على الإعلام، يستغل الأزمات، ويزدهر حيثما وُجد الغضب الشعبي والإحباط الجماهيري.
من ترامب في الولايات المتحدة، إلى بولسونارو في البرازيل، إلى لوبان في فرنسا، إلى ما لا يُحصى من نسخ محلية في كل قارة.
الوجوه تختلف، لكن النص موحّد، والأداء مكرّر، والجمهور هو نفسه:
ساخط، خائف، يائس… يبحث عن منقذ، فيجد مهرّجًا.
وهل يُستثنى العالم العربي من هذه الظاهرة؟
بالكاد.
في كثير من دوله، نشهد صعود “قادة” يتغذّون على الاحتقان، يهاجمون المثقفين، يحرّضون ضد الصحافة، ويجرّمون التفكير النقدي.
اللغة قد تختلف، لكن الآلية واحدة: تهييج الجماهير، وتكريس الانقسام، واختزال السياسة في شعارات خالية من المضمون.
إن كتاب موفيت ليس دراسة أكاديمية فحسب، بل ناقوس خطر.
فالشعبوية ليست مجرد خلل بسيط في أنظمة الحكم، بل فيروس يُقوّض الديمقراطية من داخلها، ويُفرغها من قيمها ومبادئها حتى تتحول إلى مجرد ديكور مؤسساتي.
اللوم لا يقع فقط على الساسة الذين يعتلون المنابر، بل أيضًا على الشعوب التي تهتف لهم، وعلى إعلام يسوّقهم، وعلى نخب صامتة تراقب وتبرر وتنتظر زوال العاصفة.
لكن العاصفة لا تزول وحدها.
فما لم نصرخ نحن، لا ضد “النخبة”، بل ضد الخداع باسم الشعب، ستظل الديمقراطية رهينة لمن يحولها إلى مسرحية عبثية.
السؤال لم يعد إنذارًا فكريًا فحسب، بل صار مسؤولية أخلاقية:
إلى متى نسمح للتهريج بأن يُسمّى سياسة؟
كاتب اردني