زهير عبدالله الشرمان: هاري ترومان وتراجع بلا فراق واستمرار الأزمة بلا حل

زهير عبدالله الشرمان: هاري ترومان وتراجع بلا فراق واستمرار الأزمة بلا حل

 

زهير عبدالله الشرمان

الولايات المتحدة تسحب حاملة الطائرات هاري ترومان من مياه البحر الاحمر دون ان تعلن عن استبدالها، لم يكن ذلك مجرد خطوة عسكرية عابرة بل كان انعكاسا واضحا لازمة استراتيجية اعمق بكثير من مجرد قرار انسحاب تقني، فقد جاءت الحاملة الى المنطقة في ذروة التصعيد الاقليمي برسائل واضحة للردع وفرض الهيبة ،لكنها غادرت في صمت تاركة خلفها فراغا واسئلة مفتوحة حول مستقبل الحضور العسكري الامريكي البحري في الشرق الاوسط.
في ظاهر الصورة تبدو واشنطن وكأنها انهت مهمتها العسكرية بنجاح، لكنها فعليا انسحبت تحت الضغط بعدما اصبحت هدفا غير معقد في معركة لا تشبه الحروب التقليدية التي اعتادت الولايات المتحدة خوضها ، فالحوثيون لم يواجهوا البحرية الامريكية من قواعد ثابتة ، بل من جغرافيا مرنة ومنظومات متحركة وتهديد غير مركزي وغير مرئي الذي جعل من استمرار الحاملة في المنطقة عبئا اكثر منه ورقة قوة.
على مدى خمسين يوما تعرضت القطع الامريكية لسلسلة هجمات بالصواريخ والمسيرات اسفرت عن سقوط ثلاث طائرات مقاتلة واضطرابات في منظومات الملاحة والاتصالات، وكشفت تسريبات اعلامية من داخل البحرية ان الحاملة اضطرت لاعادة التموضع اكثر من خمس مرات لتفادي الاستهداف المباشر، وهو ما لم يحصل منذ عقود في تاريخ الانتشار البحري الامريكي.
ومع تزايد الهجمات غير التقليدية وانكشاف محدودية الردع التقليدي ،اضطرت واشنطن للدخول في تفاهمات اقليمية غير معلنة عبر وساطة عُمانية تم بموجبها وقف مؤقت للهجمات الحوثية مقابل تعليق الضربات الامريكية وابقاء باب استهداف اسرائيل مفتوحا ، وهذا بحد ذاته يعكس تحولا خطيرا في منطق التعامل الامريكي حيث تم الفصل بين امن الممرات البحرية الدولية وامن تل ابيب في لحظة استقطاب غير مسبوقة.
ما لم تنقله البيانات الرسمية هو ان البحرية الامريكية تعاني من نقص في الجاهزية والتجهيز، وان اي حاملة بديلة تحتاج شهورا للصيانة والتجهيز ولا يمكن ارسالها في توقيت كهذا دون مخاطر استراتيجية ،كما ان البنتاغون يعيد ترتيب اولوياته نحو بحر الصين والمحيط الهادئ ،ويعتبر ان الانخراط في حرب استنزاف مع فاعلين غير دوليين في اليمن لا يحقق جدوى سياسية او عسكرية تبرر الكلفة.
ربما ان الانسحاب يرسل اشارة لخصوم واشنطن بان الردع الامريكي لم يعد مطلقا،  وان الفاعلين الجدد تمكنوا من فرض وقائع جديدة رغم غياب الترسانة التقليدية ، فاليمن اثبت انه يملك القدرة على ازعاج الملاحة الدولية دون ان تكون دولة ذات امكانات كبرى ، وهذا يعيد رسم مفهوم القوة والنفوذ في الاقليم ويضع الاسرائيليين امام حقيقة مرة، وهي انهم اصبحوا في مرمى لاعب لم تكن واشنطن مستعدة للدفاع ضد نيرانه الى النهاية.
اما في الجانب الاسرائيلي خلف الانسحاب الامريكي صدمة صامتة ،فتل ابيب وجدت نفسها فجاة امام جبهة جنوبية نشطة لا تملك تجاهها خيارات عسكرية مباشرة ولا ضمانات امريكية شاملة ، خصوصا بعد ان رفضت واشنطن تضمين اسرائيل في تفاهمات وقف اطلاق النار مع الحوثيين ،مما يعني عمليا ان دعمها اصبح مشروطا بالمصالح الامريكية لا بالمواقف السياسية.
اما على المستوى الاستراتيجي فان المرحلة المقبلة قد تشهد غياب الحاملات التقليدية عن الخطوط الاولى وعودة للاعتماد على الطائرات المسيرة والضربات المحددة عبر الوكلاء والشبكات الاستخباراتية ، وهذا يفتح الباب امام تحولات عميقة في شكل التواجد الامريكي في الاقليم وربما بداية تغيير مرحلة القوة البحرية الطاغية التي ميزت سياسات واشنطن في الشرق الاوسط منذ عقود.
اما الحوثيون فقد خرجوا من هذه الجولة بصورة مختلفة ، لم يعودوا مجرد فاعل محلي ضمن حدود النزاع اليمني ، بل باتوا طرفا اقليميا يمتلك ادوات تأثير تتجاوز الجغرافيا المحلية ، لقد اظهروا قدرة على ازعاج خطوط الملاحة وتعطيل مصالح دولية باستخدام تقنيات منخفضة الكلفة وعالية التأثير ، مما يعكس نمطا جديدا من المواجهات الذي يعتمد على القوة التقليدية الى مرونة التموضع وكثافة الضغط النفسي والاستنزاف التدريجي ، هذا التحول لا يعني ان الحوثيين اصبحوا قوة كبرى لكنه يكرس حضورهم كرقم لا يمكن تجاهله في معادلة الامن الاقليمي في البحر الاحمر.
السيناريوهات القادمة تشير الى احتمال تصعيد غير متماثل فقد تتجه اسرائيل الى ضربات استباقية في العمق اليمني، وقد تشهد المنطقة تدخلا روسيا او صينيا تحت غطاء حماية الملاحة الدولية ،وهو ما يعني انتقال معركة السيطرة على البحر الاحمر من صراع اقليمي الى صراع دولي واسع وربما مفتوح.
 إن مغادرة هاري ترومان لم يكن مجرد انسحاب تكتيكي ، بل كانت لحظة كاشفة عن حدود القوة وعن نهاية مرحلة وبداية اخرى ، فالمعادلات القديمة قد بدآت تتآكل والحسابات الجديدة تكتبها اقدام المقاتلين لا محركات الطائرات، وربما هذه هي الرسالة التي ستبقى عالقة في الذاكرة ، أن القوة لم تعد تُقاس بالمحركات بل بالبصمة التي تتركها الأقدام على تضاريس الاشتباك.
الأردن