يوسف علاري: وداع رمز اليسار

يوسف علاري: وداع رمز اليسار

يوسف علاري

خوسيه “بيبي” موخيكا… زعيمٌ لا يُشبه إلا نفسه.

في الثالث عشر من مايو، أسدل الموت ستاره على حياة استثنائية لزعيم فذ لا يتكرر، رجل لا يشبه إلا نفسه، صاحب إرادة لا تنحني، وصوت لا يخفت أمام أئمة الدكتاتوريات وطغاة الزمن. خوسيه “بيبي” موخيكا، رئيس الأوروغواي السابق (2010–2015)، لم يكن مجرد رئيس، بل كان رمزًا للحرية والنبل. خوسيه الثائر لم يخمده السجن، ولم تُغوِه السلطة، كان فارسًا حقيقيًا، لم يترجل عن صهوة مبادئه في عالمٍ تنهش فيه الخيانات القيم والمبادئ.
خلال سنوات حكمه الخمس، رفض خوسيه الإقامة في قصر الرئاسة الفخم، مفضلاً البقاء في منزله المتواضع بين أشجار مزرعته غرب مونتيفيديو. هناك، كان محاطًا بحيواناته، يقود الجرار، ويتنقل بسيارته البسيطة، فولكس فاغن زرقاء فاتحة، موديل 1987. لم يبنِ مجدًا زائفًا، ولم يرفل هو ولا حاشيته في ترفٍ يُذكر، ولم يسخّر إعلامًا يمجده، ولم يخصخص موارد بلاده. أطلق عليه لقب “أفقر رئيس دولة في العالم”، لكنه كان أغنى رجال السياسة روحًا وقناعة وشرفًا وكرامةً. كان ينادي بالبساطة وينتقد الاستهلاك، مؤمنًا أن السعادة الحقيقية تكمن في تحرر النفس من امتلاك الأشياء. كان بسيطًا كالحقيقة، وواضحًا كالألم، وشجاعًا كما ينبغي للحاكم أن يكون.

حين يترجل النبل… ويبقى العفن.

في زمنٍ ارتفعت فيه أصوات النفاق، وتكاثرت فيه وجوه الطغيان، رحل خوسيه “بيبي” موخيكا، رفيق الفقراء، وآخر رجال السياسة النبلاء. غادرنا جسدًا، لكنه بقي ضميرًا حيًا يذكّرنا بما ينبغي أن يكون عليه القائد، لا ما آل إليه القادة في جمهوريات القمع وعواصم الاستبداد، حيث ابتُليت الشعوب بحكامٍ يصعدون على أكتاف الثورة، ليبيعوها لاحقًا في سوق المصالح. حكّامٌ يتلونون كالحرباء، اتخذوا من الكذب منهجًا، ومن الغش زادًا يوميًا، يلبسون عباءة الوطنية، ليغتنوا من خزائن الوطن، يرفعون شعارات الفقراء، وما إن يصلون إلى سدة الحكم حتى يزداد الفقراء فقرًا، بينما يشيدون قصورهم على أنقاض ما تبقى من كرامة الجياع، وترفهم الصاخب يصمّ آذانهم عن أنين البؤساء، يسرقون الوطن بشعارات جوفاء، ويكممون أفواه معارضيهم تحت مسميات خادعة، ويدّعون الحماية وهم أول الخطر وأخيرا يطاردون الأحرار باسم أمن الدولة.

من عبق الورد إلى رائحة البارود، مرورا بغياهب السجن، ثم عطر الحرية.

خاض النبيل خوسيه نضاله في سنٍ مبكرة، حين كان يبيع الورد، قبل أن ينتقل انتقالًا هائلًا إلى صفوف حركة ‘توباماروس’ الثورية، سعيًا وراء العدالة والحرية، فكان مناضلا لا يعرف الاستسلام. سُجن 14 سنة في عهد الديكتاتورية العسكرية قضى منهم سنتين في قعر بئر، عانى من التعذيب والعزلة، لكنه لم يخرج من السجن حاقدًا ولا منتقمًا، بل خرج أكثر حكمة ونضجًا وإصرارًا على تحقيق العدالة والرحمة. وعندما تسلم رئاسة بلاده، حاول بكل قوة تطبيق المبادئ التي ناضل من أجلها، حقق في فترة وجيزة من حكمه ازدهارًا اقتصاديًا كبيرًا في الأوروغواي، ونموا ثابتا في الناتج المحلي الإجمالي، وتراجعت مؤشرات الفساد. الزعيم موخيكا كان تجسيدًا لعنفوان الحرية. كان صوته يسبقه: لا للظلم، لا للفساد، لا للاضطهاد، لا لسرقة الوطن. فكان فعله امتدادًا لصوته، لا انفصالًا عنه.
في الوقت الذي تودّع فيه الأوروغواي زعيمها بدموع العزّة والاحترام، تظلّ شعوبٌ كثيرة تشيِّعُ كرامتها، وأحلامها المدفونة، تنتظر الخلاص من جلادٍ توّج نفسه سيدًا على البلاد والعباد.
الكثير من شعوب العالم تعلم أن موخيكا تبرع بنسبة 90٪ من راتبه الشهري للفقراء، بينما ينهب طغاة بلادهم ثرواتها ويوزعونها على عائلاتهم وشبكاتهم وأجهزتهم. عاش خوسيه في مزرعة ريفية متواضعة، بسيطا في حياته اليومية، في حين حوّل كثير من الحكّام بلدانهم إلى إقطاعيات خاصة، وشعوبهم عبيد في مزارع يظنونها ملكهم. فنال موخيكا احترام وتقدير شعوب تتمنى لو أن حكامها يشبهونه.

موخيكا… فكرة باقية في زمن الانحطاط السياسي.

هكذا رحل موخيكا جسداً، لكنه بقي فكرة تتحدى زمن الانحطاط السياسي. رحل وهو يثبت أن السلطة يمكن أن تكون وسيلة للعطاء لا للاغتناء. فهل يقرأ الحكام اليوم سيرة هذا العظيم ليعيدوا للسياسة بهاءها الضائع؟
رحمك الله، بيبي موخيكا. كنت وحدك دولة أخلاق، في زمن سُحقت فيه الأخلاق تحت أقدام الطغاة.
مخرج سينمائي فلسطيني