الدكتور علي سبتي الحديثي: آفاق من منظور مراقب لجولة الرئيس الأمريكي ترامب وزيارته البارزة لدول الخليج العربي الثلاث

الدكتور علي سبتي الحديثي
بعيدا عن العواطف وفي واقع لا مفر منه وعالم جديد يتشكل وترسم خرائطه في ظل موازين القوى الدولية ، شكلت زيارة الرئيس الأمريكي ترامب الى المملكة العربية السعودية وقطر والأمارات العربية المتحدة مؤخرا بنتائجها ودلالتها ، لحظة تاريخية فارقة غاية في الأهمية ، وفاصلة حاسمة سوف تنعكس بأثارها على مستقبل المنطقة ، سياسيا وأقتصاديا واجتماعيا وبما ينعكس على الوضع العربي والأقليمي والدولي . وبتقديري فأن أبرز ما فيها على الصعيد العربي والأقليمي ، تولي قوى صاعدة بدأت فعليا تصدر المشهد العربي لعقود قادمة وكانت في طور التشكل منذ حرب الخليج الثانية .
ومن هنا سوف نوجز رؤيتنا في محورين مهمين كما أراه…
فعلى صعيد العلاقات الثنائية التاريخية بين دول الخليج العربي والولايات المتحدة الإمريكية ، والدول العربية الثلاث التي زارها الرئيس ترامب ، تم التأكيد من جديد على تحالفات قديمة ستراتيجية ومصيرية بين الطرفين . ومع ذلك تحتفظ هذه الدول الثلاث التي زارها الرئيس ترامب وعقد معها صفقات غير مسبوقة بحجمها وأبعادها بقياداتها الواعدة الذكية والحكيمة لعلاقات جيدة ومتنامية مع روسيا الأتحادية والصين الشعبية ، في أطار سعيها لمنح هامش من المرونة والتوازن في علاقاتها الدولية ، بحيث لا ترمي أوراقها في سلة واحدة ، يعاونها في سعيها ذلك تمكنها من إمتلاك مقومات القوة الناعمة المستندة الى المال والأقتصاد وحسن أدارته وتوظيفه بعقول قيادية نافذة وفق رؤيا ستراتيجية نرقب تأثيرها كل يوم على صعيد الأحداث على الصعيدين الأقليمي والدولي كما برز ذلك في النزاع الروسي الأوكراني الغربي ( الدور السعودي والأماراتي ) وفي قضية غزة والدور القطري المهم فيها . أضافة للنزاع الإيراني – الإمريكي حول برنامج إيران النووي وأذرعها في المنطقة ودور كل من عمان وقطر والأمارات العربية المتحد والمملكة العربية السعودية لنزع فتيل الأزمة بما يخدم الأمن والسلم في المنطقة والعالم .
وعلى صعيد التعاون الأقتصادي بين الولايات المتحدة والدول الثلاث التي زارها والصفقات الهائلة غير المسبوقة التي وقعها ترامب ، فأنها بلا شك ليست حلب لأقتصادات هذه الدول كما يحلو لبعض الجهلة أو الذين مازالوا يعيشون أحلام اليقظة و أوهام عالم اللاواقع ، بل أنها بتقديري ربط وتبادل منافع وتعاون بين أكبر أقتصاد في العالم وتقدم علمي وتكنلوجي هائل ما زالت الولايات المتحدة تتصدر مشهده ، وهذه الدول الثلاث التي تمتلك أقتصادات صاعدة مكنتها بجدارة للأنتقال الى مصاف العالم الأول والتحقت به متجاوزة جميع دول العالم العربي التي سبقتها في التنمية والأستقلال ، ولكنها تراجعت وتتراجع كل يوم وتغوص أكثر فأكثر في أوحال العالم الثالث . والترليونات التي أعلن عنها في الأتفاقات ليست صناديق كاش كما يحلو لبعض المهرجين وذوي الغرض من الذيول شحنها ترامب على متن طائرته الرئاسية أنما هي مشاريع تعاون علمي وأقتصادي وتكنلوجي وعسكري وتبادل منافع بين الطرفين لأكثر من عقد قادم وليس حلب ولا والأستلاب وعلينا أن نحاكم الأمور ونقيمها بالعقل لا بالعواطف .
لقد تبدلت الخرائط وأسرعت سوريا بقيادتها الشابة الواعدة والتحقت بالمحور العربي الجديد ، وسوريا لا تكمن أهميتها فقط بموقعها الستراتيجي ، بل بشعبها الخلاق وغناه بالكفاءات في كل المجالات ، حيث ستكون ظهيرا ستراتيجيا وبشريا للملكة العربية السعودية والأمارات وقطر ، بعدما التحقت بالقطار المنطلق بعزم من الرياض وأبوظبي والدوحة ، لتضيف اليه زخما ستراتجيا ، وكانت صورة الأمير محمد وتعابير وجهه ويديه وفرحته برفع العقوبات عن سوريا لحظة أعلان ترامب خير تعبير عما نقول فهي ليست عاطفة محبة تجاه الشعب العربي السوري فقط أنها تعبر عن رؤيا وأمل . وأن التحاق سوريا بقطار الرياض أبو ظبي الدوحة ، سيكون أضافة هامة للغاية في السعي لحصول العرب على مكانهم في العالم الجديد ، وبالتأكيد سيكون لصالح حقوق أهلنا في فلسطين وغزة في المدى البعيد ، وفق سياسة عقلانية صبورة وثابتة والزمن لصالح العرب مهما أدلهمت وقائع الوضع الراهن في غزة والضفة .
أما ثناء الرئيس ترامب على القادة الشباب الحكماء وذوي الرؤيا الناضجة الشيخ محمد بن زايدآل نهيان ( وريث حكيم العرب ) والأمير محمد بن سلمان والأمير تميم فهي في محلها وليست غزل من أجل الحلب كما يحلو للمهرجين والذين ما زالوا يعيشون في الأوهام والشعارات الشعبوية الرنانة التي ترافقهم في أحلام اليقظة والضياع ، والتي لم تجلب لشعوبنا العربية غير الهزائم والدمار ولم تجلب لفلسطين غير مزيد من الضياع والدمار .
الزاوية الأخرى المهمة للغاية بتقديري في زيارة ترامب ونتائجها أنها أعلنت سواء شئنا أم أبينا عن مولد الشرق الأوسط الجديد بملامحه الأخيرة.
هذا الأمر يذكرني بقصة واقعية كنت طرفا فيها عام 1995 ترافقت مع صدور كتاب شمعون بيرز، وهو المفكر الثاني للحركة الصهيونية العالمية (الشرق الأوسط الجديد) ، والذي دعا فيه الى قيام نظام أقليمي شرق أوسطي ، يقوم على أساس التعاون الكامل بين العرب وإسرائيل في كافة المجالات.
فقد تزامن صدور الكتاب مع أنعقاد مؤتمر السفراء السنوي في بغداد في ذلك العام وكنت حينها سفيرا للعراق في ليبيا ، واطلعت قبل حضوري للمؤتمر على هذا الكتاب الخطير وقرأته بتمعن بعد أن أشتريته من مكتبة بيسان في عمان في طريقي الى بغداد. وبما أن أحد الفقرات الرئيسية للمؤتمر هو بحث كيفية العمل على رفع الحصار عن العراق حينذاك بتطبيق شروط مجلس الأمن الدولي المجحفة ، وكانت تلك المهمة في المؤتمر تقع على عاتق سفراء ووزراء متخصصين بشأن الحصار ألا أنني تدخلت في تعليق نهاية الحوار، وقلت لرئيس المؤتمر والمؤتمرين مخاطبا أياهم لقد ناقشتم الشروط الفنية ولكن قناعتي تقول أن هنالك شرط غير معلن ولكنه الأهم لرفع الحصار ، فسألني أحدهم من ذوي الشعارات الثورية والخطب الرنانة ممن تعودوا على خداع قيادتهم، ماذا تقصد قلت له أقرا كتاب بيرز الجديد حول الشرق الأوسط الجديد ، وسوف يجيبك ودار حوار متشنج كاد أن يطيح برأسي عندما رفع الأمر الى الرئيس الراحل صدام حسين لولا لطف الله فقدكان مجرد الهمس في موضوع السلام والتسوية في الصراع العربي الصهيوني في ذلك الوقت يعتبره المزايدون خيانة مهما كانت الدوافع والنيات وطنية وحريصة على مستقبل البلد الذي كنا نراه بأ أعييننا يتجه نحو الواهية … ويشهد الله لم يكن هدفي من طرح ذلك الموضوع الخطير خروجا على مبادئي ودعمي للقضية الفلسطينية ، وأنما كان من أجل أيصال صوت مخلص للوطن الى القيادة ( المحاطة بأسوار من الجهلة والمزايدين الذين كانوا يحاولون أيصال ما يمتع أسماع قائدهم متناسين مصلحة الوطن العليا) على ما يحيط بها من أشتراطات ، وكان يتطلب منها التأمل بعقل وموضوعية ، بما يحفظ العراق لا سيما وأنه كان سند رئيسي لقضايا أمته العربية، وفي مقدمتها حقوق الشعب العربي الفلسطيني.
تم إحتلال العراق وأعلنت غوندليزا رايس عن مولد الشرق الأوسط الجديد ولكنه لم يتحقق، والآن نضجت الظروف تماما وبتقديري أن الشرق الأوسط الجديد ولد مع الزيارة التاريخية لترامب ، ولكن ليس كما كان يتمنى بيرز فقد برزت في المنطقة قوة جديدة عربية متمثلة في الدول الثلاث ( ومعها مصر وسوريا الجديدة والأردن) التي زارها بايدن وأبرم معها أتفاقيات تاريخية وهذه المجموعة تمتلك من مقومات القوة الناعمة ما لا يمكن تجاهله في صراع المصالح الدولية في عالم اليوم ، مما يجعلها شريك في صنع مستقبل المنطقة وحل الصراع العربي الأسرائيلي والحصول على حقوق الشعب العربي الفلسطيني وأقامة دولته الفلسطينية المستقلة عن طريق السلام ووفقا للقرارات الأممية، أمر قابل للتحقيق وهذا ما نتوسمه في المستقبل القريب بعد أن تضع حرب الأبادة الجماعية في غزة اوزارها.
وجملة أعتراضية أضيفها على ما سبق من رؤيا ، لمن يستهين بحجم الصفقات التي عقدت على سبيل المثال، فأن تحول الأمارات العربية المتحدة لمركز رئيسي في العالم لأبحاث الذكاء الصناعي بالتعاون مع الولايات المتحدة الإمريكية، سيضيف من عوامل القوة الناعمة لدول الخليج العربي وللمواطن العربي عموما ما لا يستهان به من هذه المعرفة التي تشكل ثورة في العالم الجديد ستسهم في رسم ملامحه المستقبلية …..
فهل تنجح رؤية تحقيق السلام وأستعادة حقوق الشعب العربي الفلسطيني وفق رؤية محور السلام العربي، الذي تحول لرقم مهم يحسب له في المصالح والسياسة الأمريكية الراعية لأسرائيل في المستقبل القريب ، وهل ستتمكن الأدارة الأمريكية من العمل على فرض السلام على الأدارة الأسرائيلية والتي ما زالت هي العدو الأساسي للسلام.
وهل ينجح المعسكر العربي المحافظ الجديد فيما فشل فيه المشروع الثوري العربي منذ تقسيم فلسطين الى وقت قريب نحن بالأنتظار …..
كاتب وسفير سابق