الدكتور بهيج سكاكيني: تغيير الموقف الخليجي تجاه المفاوضات النووية بين الولايات المتحدة وإيران

الدكتور بهيج سكاكيني
عندما بدأت المباحثات بين الولايات المتحدة في زمن إدارة أوباما وإيران حول برنامجها النووي وقفت الدول الخليجية موقفا غير مؤيدا لتوقيع الاتفاق الذي تم توقيعه عام 2015 بين الدول الخمسة زائد واحد. وبقيت السعودية والكيان الصهيوني ولغاية آخر دقائق قبل توقيع الاتفاق تحاولان وعبر التنسيق مع وزير الخارجية الفرنسي وضع العراقيل امام توقيع الاتفاق وكان هنالك خط مفتوح مباشر بين هذه الدول هدفه تعطيل الاتفاق بطرح شروط ومطالب خارجة عما اتفق عليه. وعند ذلك وعدت السعودية بإبرام صفقة أسلحة فرنسية لإغراء فرنسا بالوقوف ضد الاتفاق. ولكن الذي حصل وبضغط أمريكي تم توقيع الاتفاق عام 2015 والذي تم الانسحاب منه احاديا عام 2018 من قبل الرئيس ترامب في ولايته الأولى تحت ضغوط اللوبي الصهيوني ونتنياهو الى جانب الصقور اللين كانوا ضمن مستشاريه وطاقم إدارته آنذاك.
أما اليوم فقبل وأثناء زيارة ترامب الى المنطقة نرى ان الدول الخليجية وعلى وجه التحديد السعودية والامارات وقطر يحثون ويضغطون على ترامب للمضي قدما لإنجاح المباحثات الجارية مع إيران حول برنامجها النووي والوصول الى توقيع اتفاقية ترضي جميع الأطراف بما فيها إيران طبعا. وهذا بحد ذاته مؤشرا على تغير جوهري في مواقف الدول الخليجية ليس فقط من برنامج إيران النووي، بل يتعداه الى العلاقات بين إيران والدول الخليجية وعلى رأسها السعودية التي طبعت علاقاتها مع إيران بوساطة صينية ناجحة ولا شك ان السعودية هي من تدير السياسة الخليجية ولو ان دورها تراجع في فترة معينة لصالح الامارات. الا ان الزيارة الأخيرة لترامب الى المنطقة والتي بدأها بالسعودية لهو دلالة على الموقع الإقليمي والدولي للسعودية التي استعادت مكانتها موقعها الريادي في المنطقة.
هذا التغير في الموقف لا بد من الوقوف عند وفهم بعض الأسباب التي أدت اليه.
أولا: هنالك شعور او على الأقل مخاوف بين الدول الخليجية أن موقع الولايات المتحدة على الساحة الدولية قد تراجع لصالح تجمعات اقتصادية عالمية مثل دول البريكس ومنظمة شنغهاي وصعود وتنامي الدور الصيني والروسي على الساحة الدولية والتي أصبحت تنافس أمريكا اقتصاديا وعسكريا وتكنولوجيا. وهذا الشعور بالخوف وعدم اليقين تزايد مع مجيء ترامب وإتباع سياسة خارجية مبنية على شعار “أمريكا أولا” واستعداده ليس فقط للتخلي عن حلفاء، بل وتحقيرهم وإهانتهم كما حدث مع زيلنسكي في البيت الأبيض وكذلك التهديد بالانسحاب من الناتو وعدم تقديم الدعم العسكري أو المادي لأوكرانيا على خلاف موقف الاتحاد الأوروبي الى جانب تأنيب دول الاتحاد الأوروبي في اعتمادهم الكلي على الولايات المتحدة لحمايتهم واستغلالها. ولم يسلم نتنياهو من معاملة خشنة فلم يستشار او يبلغ مسبقا بالمفاوضات مع إيران ولا بمفاوضات وقف العدوان الامريكي على اليمن وعدم شمول الاتفاق وقف إطلاق الصواريخ والمسيرات اليمنية تجاه فلسطين المحتلة.
ثانيا: بروز اليمن كقوة إقليمية لا يستهان بها كما اثبتت الوقائع على الأرض وذلك من خلال الصمود للحرب العدوانية التي شنت عليه في شهر آذار عام 2015 من قبل السعودية والامارات بمشاركة أمريكية وغربية من الخلف وذلك بتقديم كل الدعم العسكري واللوجيستي. ولم يقتصر الامر على الصمود، بل استطاع اليمن ان يطور من خبراته العسكرية والتصنيع العسكري وخاصة في مجال الصواريخ الباليستية وغيرها والتي استطاع من خلالها ان يبلي بلاء غير عادي وغير متوقع إن كان بإيذاء الكيان الصهيوني الى جانب البوارج وحاملات الطائرات الامريكية والقطع البحرية والتي أجبرت الولايات المتحدة تحت إدارة ترامب بالتراجع وتوقيع اتفاقية مع اليمن من خلالها توقف أمريكا ضرباتها الجوية وعدوانها على اليمن فيما تلتزم اليمن بعدم التعرض للسفن الامريكية في مياه البحر الأحمر. وربما من المفيد ان نستذكر ان الجيش اليمني قد قام بضرب عدة صواريخ على السعودية سقط البعض منها على معدات وحاويات تخزين للبترول في أرامكو وكذلك استهداف مطارات عسكرية كانت تنطلق منها الطائرات لقصف اليمن الى جانب ضرب الصواريخ على دولة الامارات وفي كلا الحالتين لم تأت أمريكا للدفاع عنهم بالرغم من وجود اتفاقيات دفاع مشترك تلتزم فيها الولايات المتحدة بالدفاع عن السعودية وكذلك الامارات. وهذا بحد ذاته أدى الى انعدام الثقة بالولايات المتحدة وبالاتفاقيات الموقعة معها.
ثالثا: الدول الخليجية لا تريد ان الوقوع في مرمى نيران الصواريخ والمسيرات الإيرانية في حالة التصعيد واندلاع الحرب بين إيران والولايات المتحدة وانعكاس هذه الحرب على الداخل الخليجي خاصة مع وجود القواعد العسكرية والبحرية الامريكية في كل دولة خليجية دون استثناء ولما قد تسببه هذه الحرب من دمار كبير للمنشآت النفطية والصناعات البتروكيماوية والبنى التحية بشكل عام. هذا الى جانب هروب الاستثمارات الأجنبية من هذه الدول مما سيشكل ضربة لاقتصاد هذه الدول فالاستثمارات الأجنبية بحاجة ضرورية الى الاستقرار والامن في هذه الدول.
رابعا: الدول الخليجية أدركت ان كل العقوبات التي فرضت على إيران طيلة عقود من الزمن وما زالت لم تؤد الى الأهداف المرجوة منها حتى تلك التي وقعت تحت شعار “الضغوط القصوى”. وعلى العكس من ذلك فلقد استطاعت إيران استيعاب هذه العقوبات والالتفاف عليها بفضل علاقاتها مع تركيا وروسيا والصين كما استطاعت تطوير قدراتها العسكرية وغيرها تحت هذا الحصار الخانق وبدلا من تركيها او إسقاط الحكم فيها رأت إيران ان هنالك فرصة لتطوير قدراتها الذاتية وعدم الاعتماد على الخارج. وقد نجحت إيران الى حد كبير خاصة في قطاع التصنيع العسكري والنووي وراكمت الخبرات العلمية والتكنولوجية التي ابهرت العدو والصديق. لا أحد يستطيع انكار ان هذا التطور الذي كلف مالا كثيرا كان على حساب تطوير مجالات اجتماعية واقتصادية تخدم القطاع الأكبر من الشعب الإيراني، ولكن كان لا بد من انتهاج اقتصاد حرب للدفاع عن كينونة الدولة ضد أي عدوان خارجي. من هنا نستطيع القول ان الدول الخليجية وصلت الى قناعة أن حالة الاستقرار في المنطقة والتعاون فيما بينها وإيران لتمكين هذا الاستقرار والامن سيعود على الجميع بالخير والازدهار وهذا يضاف الى الأسباب التي جعلت الدول الخليجية تنحى الى التوجه لدعم المفاوضات بين أمريكا وإيران لخلق نوع من الاستقرار في المنطقة.
خامسا: إن توجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية يعني إحداث تلوث كبير في مصادر المياه وكذلك الهواء بالغبار النووي وهو ما كان اشار له وزير الخارجية القطري في إحدى زياراته للبيت الأبيض. وهذا التلوث وما يصاحبه من أمراض نتيجة الاشعاعات النووية الذي سيستمر لعقود من الزمن لن تكون مقصورة على الدول الخليجية وربما يجعل منطقة الخليج بأكمله منطقة غير صالحة للعيش البشري او الحيواني. ويكفي ان نشير هنا الى النتائج الكارثية المستمرة للان على المستويين البشري والبيئة والصحة نتيجة استخدام الولايات المتحدة اول قنبلة نووية التي ألقيت على هيروشيما وناكا زاكي في اليابان عام 1945.
لكل هذه الأسباب مجتمعة وربما غيرها أحدثت تغيرا استراتيجيا واضحا للدول الخليجية من موقفها الإيجابي المتميز في المرحلة الحالية فيما يخص تفاوض الولايات المتحدة مع إيران وحث الرئيس ترامب للوصول الى اتفاق وإبعاد شبح حربا كارثية في المنطقة.
كاتب وأكاديمي فلسطيني