دكتور طارق ليساوي: تفسد الأسماك من رأسها والمجتمعات من قادتها.

دكتور طارق ليساوي
حاولت من خلال مقال كلمة السر في فهم تقدم وصعود الأمم الأسيوية إستحضار تجربة الصين في مكافحة الفساد و محاسبة المفسدين و سورها الصين العظيم لما له من رمزية في هذا الصدد، لكن أعظم سور هو الذي بناه الشعب الصيني على إمتداد خريطته النفسية و السيكولوجية ، الرافضة و غير المتسامحة مع الفاسدين و لا تعتبرهم من الواصلين ، بل تنظر إليهم على أنهم لصوص و مجرمين و إجرامهم يمس بنية المجتمع و أمنه و استقراره ..
الجامعة و البزنس
و على خلفية فضيحة السمسرة و المتاجرة في الشواهد الجامعية و الديبلومات، و التي تمثل النموذج التطبيقي لربط الجامعة بسوق البزنس، سأسرد على القراء هذه القصة الطريفة ، التي وقعت لي مع أستاذتي السيدة ” Park yong hee” والتي درست على يديها اللغة الكورية و أصبحت تجمعنا علاقة صداقة و احترام متبادل، فالنموذج التعليمي الكوري يقوم على تشجيع التواصل بين الطلاب و الأساتذة، و العلاقات الإنسانية خارج قاعة الدرس هي امتداد للعملية التعليمية…
قصة طريفة
ففي يوم من الأيام جلسنا في مقهى بأحد الشوارع الرئيسية بالرباط عاصمة المغرب، و تحديدا أمام البرلمان المغربي، ترحيبا بقدومها من كوريا الجنوبية…و بعد لحظات أخدت السيدة ” Park yong hee” تسجل بعض العلامات على أجندتها ، و عندما انتهت وجهت لي سؤالا عجزت عن إيجاد جوابا له ، فقالت لي: ” أستاذ لاحظت منذ جلوسنا مرور أزيد من ٣٠ سيارة يفوق ثمن الواحدة منها ٥٠ ألف دولار ، وذلك في أقل من ٢٠ دقيقة، و أنت تعلم يا أستاذ أنه في العاصمة سيول لن تجد مثل هذا العدد من السيارات يمر في ذات الفترة، كيف يحدث هذا الأمر في بلادكم ؟! أنتم بلد فقير لكن شعبها يبدو غنياً، و كوريا بلد غني و شعبها يبدو فقيراً، بماذا تفسر هذا الأمر… ؟! “
الاستهلاك المظهري
لا أخفيكم قرائي الأعزاء أني لم أجد لهذه المفارقة جوابا في حينه، لكن السؤال ظل دائماً يراودني ، و هو الأمر الذي جعلني أجد جوابا عاجلا وهو الاستهلاك المظهري، الشعب المغربي و معه الشعوب العربية تنتهج استهلاكا مظهريا أو تفاخريا، و هذا أمر غير صحي، فأوضاع هذه البلدان و مستواها التنموي يقتضي نمطا استهلاكيا مغايرا، نمط يحفز على الإنتاج و تشجيع الإدخار بهدف توفير الموارد الضرورية للاستثمار …
تعديل للنظرية
لكن بعد مرور بضع سنوات على هذه القصة، أجد نفسي مضطرا إلى تعديل التفسير ، فالأمر ليس له صلة فقط بالإستهلاك المظهري ، و إنما بوفرة الأموال و كثرتها ، و الأمر له صلة بالأموال السوداء التي تمر و تصرف تحت الطاولة، فالفساد في المغرب مستشري إلى درجة فاقت كل التوقعات ، الفساد في منح الديبلومات و في منح رخص البناء و غيرها من الرخص، أموال كثيرة تتدفق و من مات ضميره فبإمكانه تحقيق ثروات قارونية من المتاجرة في كل شيء، فموظف بسيط أو متوسط في الوكالة الحضرية بالعاصمة الرباط و ضواحيها ، و أعرفه معرفة شخصية حقق ثروات قارونية ، يشتري أراضي بالهرهورة مسقط رأس كاتب هذه السطور و مقر سكناه الحالي ، مع العلم أن ثمن المتر المربع وصل إلى عنان السماء ، و الرجل دخله معروف و دخل أبوه و جده معلوم ، فيا ترى من أين له بهذه الأموال؟ الجواب إستغلال المنصب و ما يتيحه من معلومات، يبتز بها رجال الأعمال و المنعشين العقاريين ..و الغريب أن هناك بعض المهندسيين المعماريين يشتغلون كسماسرة معه ضدا عن مصلحة من يتعاقدون معهم من رجال أعمال …
فساد منظم
الفساد عم و تفشى و ما يطفو على السطح مجرد قمة جبل الجليد التي تحتاج لمزيد من البحث و التدقيق و التحقيق لفضح مأسي أكبر و أخطر و أفظع، تفسد الأسماك من رؤوسها وتفسد المجتمعات من نخبها ..و من الخطأ أن نحمل الفساد لعامة الناس و للشعب ، لأن الفساد في مجتمعاتنا العربية مخطط له و منظم بشكل عجيب ، و مؤسسي بشكل فريد.. و تبعا لذلك، فإننا نجانب الصواب إذا نسبنا الفساد المستشري في مجتمعاتنا العربية إلى انحطاط أخلاقي لدى الشعوب، فليس هناك شعب صالح وشعب فاسد، فبقدر ما تكون الحكومات صالحة بقدر ما تكون الشعوب مستقيمة وشريفة. إنها معادلة بسيطة جداً، فصلاح الأولى يعني بالضرورة صلاح الثانية. وإذا فسدت الأنظمة فإن الناس ستفسد أتوماتيكياً تماماً كما يحدث للسمكة، فما أن يخرب الرأس حتى تسري النتانة في باقي أعضاء السمكة مباشرة. وهكذا أمر المجتمعات فلا تستقيم إلا باستقامة الرؤوس الحاكمة.
قانون خلدوني
هذه الظاهرة وصفها العلامة”ابن خلدون” في مقدمته عندما أشار إلى أن المغلوب مولوع دائماً بتقليد الغالب في لباسه و طريقة معاشه، فالمشكل ظاهريا يبدو مشكل ثقافي، لكن بالتوغل في بواطن الأمور ندرك أبعادا أخرى أكثر تعقيدا، ودائما نجد جوابا عند “ابن خلدون” الذي اعتبر أن الجمع بين التجارة و السلطان يجلب الفساد و خراب العمران…
مزرعة شخصية
فالقضية الجوهرية هي أن القوانين العامة والرقابة الصارمة و العقاب الصارم، عنصر ضروري في قطع دابر الفاسدين و الطامحين فيما ليس ملكا و حقا لهم ، فالمسؤول العربي لا يفرق بين المال العام و المال الخاص و يعتقد أن المؤسسة العمومية و المنصب العمومي “مزرعة شخصية”، فبعضهم لا يفرق و يفصل بين موقع المسؤولية في دولة أو مؤسسة وبين التصرف بأموال المؤسسة كما لو كانت ملكاً شخصياً للمسؤول.
و هذا السلوك بنيوي للأسف فمفهوم الدولة، ومفهوم المُلْك العام، لم يتجذّرا بشكل كافٍ، بحيث يشعر الموظف أنه موظف، و أن راتبه يدفعه دافع الضريبة أي المواطن ، فهو يشتغل عند الناس و لا يحق له أن يمد يده لمصالحهم و أموالهم ، وأن المال الذي في الصندوق أمامه، ليس ملكاً شخصياً له..كما ان هذا السلوك الفاسد له صلة بغياب الديمقراطية الحقيقية وغياب القوانين الرادعة واحتقار الجهاز الحاكم للشعب ، ففي ظل النظم الديمقراطية يتقلص الفساد، ويصبح غير شرعي وغير قانوني، أما في ظل النظم الديكتاتورية تتوسع قاعدة و دائرة الفساد فليست هناك رقابة ولا ضوابط تمنع الفساد أو تمنع تعمًّق طاعون الفساد.
إصلاحات بنيوية
فعالمنا العربي، بحاجة إلى إصلاحات بنيوية و جذرية أفقيا و عموديا ، للانتقال من التخلف المأزوم إلى النهضة والتقدم، بلداننا بحاجة إلى ثورة وسياسية و قانونية و علمية و تكنولوجية، وهذا لا يتم بدون نهضة تعليمية عميقة وشاملة، فالفساد لا تتم بالوعظ الأخلاقي فقط ، و إنما بوضع بنية متكاملة تقوم في الأساس على بناء دولة الحق و القانون و ردع لصوص المال العام و الخاص ، (إن الله يزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن)..فالتغيير ممكن و ليس مستحيل، و عندما أستحضر تجارب مقارنة أسيوية في الغالب ، فالغاية و المقصود، توضيح أن سبيل الإصلاح تمر عبر بوابات واحدة و مسالك معلومة..و في تاريخنا أيضا هناك نماذج تستحق الدراسة و الاقتباس..
عمر بن عبد العزيز
و من ذلك، تجربة الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، و الذي نجح في مكافحة الفساد و بناء دولة العدل في عامين ، و تروي كتب التاريخ أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنة، لما دفن سليمان بن عبد الملك وخرج من المقبرة، سمع للأرض هدَّةً أو رجَّة، فقال: ما هذه؟ قيل: هذه مراكب الخلافة يا أمير المؤمنين قربت إليك لتركبها، فقال: مالي ولها، نحوها عني وقربوا إلى بغلتي، فقربت إليه بغلته فركبها، فجاءه صاحب الشُّرَطِ يسير بين يديه بالحربة، فقال: تنح عني! إنما أنا رجل من المسلمين.
الحكم الشوري
فسار والناس معه حتى دخل المسجد، فصعد المنبر، فقال: “يا أيها الناس: إني قدِ ابتُليت بهذا الأمر، من غير رأيٍّ كان مني فيه، ولا طِلْبةٍ له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم”.
فصاح المسلمون صيحةً واحدة: “قد اخترناك يا أمير المؤمنين، ورضينا بك، فتولَّ أمرنا باليُمن والبركة” فلما رأى الأصوات قد هدأت ورضي به الناس جميعا؛ حمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وخطبهم فأوصاهم بتقوى الله، وذكرهم بالموت والآخرة، ثم قال:” يا أيها الناس من أطاع الله فقد وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم”.
مناهضة الظلم
ثم أمر مناديَه أن ينادي: “ألا من كانت له مظلمة فليرفعها” فتوافد أصحاب المظالم يطالبون بحقوقهم، وهو يجيبهم، وينصفهم.
هكذا : بدأت خلافة عمرَ بنِ عبد العزيز، دون احتفالات ولا مراسم ولا تتوي…لقد بدأت بالعدل والإصلاح وإنصاف المظلومين.
وكان من أعظم التحديات التي واجهت عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: أنه نظر إلى بيت مال المسلمين، فوجد كثيراً من خلفاءِ وأمراء بني أمية، قد استقطعوا لأنفسهم وحاشيتهم وأحبابهم، أعطيات ومخصصات، يأخذونها بغير حق.
“حتى يغيروا ما بأنفسهم”
فبدأ عمر -رحمه الله- بمحاربة ذلك الفساد المالي المتراكم، وبدأ بنفسه وأهل بيته، فقام على المنبر فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: “أما بعد: فإن هؤلاء قد أعطونا عطايا، ما كان ينبغي لنا أن نأخذها، وما كان ينبغي لهم أن يعطونا إيها، وإني قد بدأت بنفسي وأهل بيتي”.
ثم قال لمولاه مزاحم: “اقرأ” فجعل مزاحم يقرأ سجلات العطايا، وعمر بن عبد العزيز يأخذ تلك السجلات والصكوك، ويقطعها بيده واحدة واحدة.
ودخل على زوجته فاطمة بنت عبد الملك، وكانت عندها جواهرُ نفيسة أعطاها إياها والدها من بيت المال، فقال عمر بن العزيز: “اختارِ إما أن تردي حُليَّكِ إلى بيت المال، وإما تأذني لي فأفارقكِ، فإني أكره أن أكون أنا وأنت وهو في بيت واحد”.
قالت: “بل أختارك يا أمير المؤمنين عليه، وعلى أضعافه” فأمر به فحمل، حتى وضع في بيت مال المسلمين. وبعد ذلك ، انقلب عمر بن عبد العزيز إلى بني أمية، وهم أصحاب النفوذ والسلطة والجاه..
التجارة و السلطان
و قد أشرف عمر بن عبد العزيز بنفسه على ما يتم في دولته من أعمال صغرت أو كبرت، وكان يتابع عماله في أقاليمهم وساعده على ذلك أجهزة الدولة التي طورها عبد الملك بن مروان، كالبريد، وجهاز الاستخبارات الكبير الممتد في أطراف الدولة والذي كان الخلفاء يستخدمونه في جمع المعلومات..
ومن أهم القضايا التي كان يتابعها ويحرص على تطويقها وتقويضها قضايا الفساد الإداري فقد سعى عمر بن عبد العزيز لتحقيق السلامة من هذا الفساد، بالحرص على سبل الوقاية منه، وسد المنافذ على السموم الإدارية مثل الخيانة، والكذب والرشوة والهدايا للمسؤولين والأمراء والإسراف وممارسة الولاة والأمراء للتجارة واحتجاب الولاة والأمراء عن الناس ومعرفة أحوالهم، و أهم ما إهتم به منع الجمع بين التجارة و السلطان.. هذا بيان للناس وهدى و موعظة للمتقين” (الآية 138 آل عمران) ..و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون..
كاتب و أستاذ جامعي من المغرب