د. جمال الحمصي: أسس تشكيل الدول العربية الفعالة

د. جمال الحمصي: أسس تشكيل الدول العربية الفعالة

د. جمال الحمصي
الخوارزميات هي مجموعة من التعليمات المتسلسلة والمنطقية اللازمة لحل مشكلة ما، وسميت الخوارزميات نسبة إلى الخوارزمي، عالم الرياضيات المسلم، الذي عاش اثناء عصور الظلام الغربية. والخوارزميات هي الأساس في تطوير علم الذكاء الاصطناعي الذي يُبهر العالم حالياً.
وللأسف، فان خوارزميات الحياة الاجتماعية، بما فيها القوانين الحاكمة للازدهار والاستقرار طويل الأمد، هي أعقد بكثير من نظيرتها في علوم الفيزياء والجبر. فهي لكونها علوما معيارية تتطلب الحكمة والشريعة وليس المعادلات والنماذج الرياضية فحسب. وباستبعاد الغرور البشري، يُؤكد تباين النظريات العلمية التفسيرية وتعدد مشاريع النهوض التطبيقية ضعف العلوم التجريبية لوحدها في ارشادنا الى بناء الأمم القوية وتحقيق التنمية المستدامة.
وبناء عليه، يُصعب تحديد عامل رئيسي وحيد وفريد لبناء الأمم وهشاشتها وإخفاقها، لكن في كتابهما: “لماذا تفشل الأمم؟” حاول عاصم أوغلو وروبنسون فك شيفرات بناء الأمم القوية وتوصلا بعد دراسة تاريخية عميقة لهم ان غياب المؤسسات السياسية والاقتصادية التشاركية وهيمنة المؤسسات الاقصائية والاستغلالية وغير التشاركية هو السر التاريخي طويل الأجل من وراء فشل الأمم، بسبب تأكل الشرعية والثقة.
اما المفكر المشهور فوكوياما في كتابيه التوأم “أصول النظام السياسي” و”النظام السياسي والانحطاط السياسي” فقد توصل الى إطار الركائز الثلاثة، المتكاملة والمتوازنة، لبناء الدول: الدولة ذاتها وسيادة القانون والمساءلة الديمقراطية، بما يحقق النظام ويخفف من سوء الإدارة والفساد في آن واحد.
ابن خلدون في “مقدمته” الخالدة طوّر وعدّل نموذجاً تاريخياً أكثر تعقيداً للحكم الرشيد، ترجع جذوره الى أيام حكماء الإغريق والفرس، سُمّي ب “حلقة أو دائرة العدل” وملخصه: المُلْك لا يتم عِزّه إلاّ بالشريعة، ولا قوام للشريعة إلاّ بالمُلْك، ولا عزّ للمُلْك إلاّ بالرجال، ولا قوام للرجال إلاّ بالمال، ولا سبيل للمال إلاّ بالعمارة، ولا سبيل للعمارة إلاّ بالعدل.
وفي هذه الحلقة متشابكة العوامل، تبرز مقولة ابن خلدون: “اﻟﻈﻠﻢ ﻣﺆذن ﺑﺨﺮاب اﻟﻌﻤﺮان”. أما حكمته: “لا سبيل للمال دون العمارة” فتعني أن توسيع النشاط الاقتصادي هو شرط ضروري لزيادة التحصيل الضريبي الضروري لاستدامة الدولة، وليس العكس كما يرى خبراء صندوق النقد الدولي!.
وبلغتنا المعاصرة، تتشكل دعائم الدولة القوية -حسب ابن خلدون- بمتغيرات مترابطة ومتداخلة عضوياً وبسببية دائرية هي: السلطة، الشريعة (أو حكم القانون)، والناس (المجتمع المدني أو الأمة)، ورصيد الثروة (بما فيها رأس المال الفكري)، والنمو الاقتصادي والمالي (العمارة)، وأخيراً وليس آخراً العدل الذي يدعم العمارة والسلطة والشرعية، حيث تؤثر كل دعامة أساسية في الأخرى، وتتأثر بها. قارِنْ هذه النظرة المتكاملة نسبياً مع المنهج الاختزالي للنموذج السلطوي الذي أسسه المفكر الغربي هوبز، حيث العقلانية هنا تظل فرعية وجزئية.
ويوفر نموذج ابن خلدون اطارا حكيماً وثاقباً بشكل ملحوظ لبقاء الأمم بتوقعه العديد من الاستنتاجات الأساسية المقدمة في كتاب “لماذا تفشل الأمم؟”. فتركيزه على العدالة وسيادة القانون والترابط بين التنمية السياسية والاقتصادية، والعواقب السلبية للإقصاء، يتردد صداه بقوة في كتاب عاصم أوغلو وروبنسون وتحليله للمؤسسات التشاركية مقابل المؤسسات الإقصائية والريعية.
أما القرآن الكريم، هداية الخالق للبشرية، فان هنالك آيات محكمات ترشد مُجتمعة الى أسرار بقاء الأمم وهلاكها الجزئي أو الكلي. وهذه يمكن تصنيفها الى: (1) أسباب هيكلية طويلة الأجل و(2) محفزات آنية سريعة الأثر (أو آلية الزناد Triggers كما يُطلق عليها) مثل دور منصات التواصل الاجتماعي حديثاً في إحداث الاتجاهات العامة.
الأسباب الهيكلية هامة وهي الأساس، وتشمل حسب القرآن الحكيم: الظلم (أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا) وكثرة الفساد وغياب المنافع الجماعية (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ) وكُفْر النّعمة (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ). أما آليات الزناد فأثرها سريع، لكنها لا تعمل دون مسببات طويلة الأجل، وتشمل المجاهرة بالشرك (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَىٰ)، كما أكد القرآن على دور الترف والمترفين كآلية خفية وسريعة الأثر في انهيار الأمم (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)، وقيل مترفيها هم ليسوا أغنياؤها بل أشرارها وجبابرتها ونخبها.
الخلاصة: الدولة العربية القوية بحاجة في الأجل الطويل إلى مجتمع مدني قوي لاستدامة التنمية وبناء الأمم، واللجوء المتزايد الى السلطوية رغم انه جذاب في فترات الأزمات والمعونات، لكنه مسار إدماني يصعب تصويبه، ويخضع في الأجل المتوسط والطويل الى قانون تناقص المنفعة في علم الاقتصاد مما قد يعيدنا الى مربع الشتاء العربي (هامش 1).

هوامش
هامش (1): ومن منظور علمي متعدد التخصصات، يدعم الجدل أعلاه العديد من خلاصات وبحوث العلوم الحديثة، وأبرزها علم السيطرة والاتصال (تحديداً قانون التنوع المطلوب)، واقتصاديات الاختيار العام (نظرية الفشل الحكومي)، وعلم الحوكمة الحديث والناقد لسيادة النظم المركزية والهرمية، وعلم السياسة (النظرية التعددية والديمقراطية)، واقتصاديات التنمية والنمو، وعلم تحليل السياسات العامة (نظرية التعديل المشترك للفرقاء وقانون النتائج غير المتوقعة)، وحقل العلاقات الدولية (نظرية هشاشة الدول)، وفقه السنن الإلهية، والنظرية الأخلاقية (المغالطة الطبيعية وقانون هيوم)، وأخيراً علم الاجتماع الكلاسيكي (أنظر مقال: السؤال الأضخم في الواقع العربي المعاصر).