فشل يُدعى ‘إنجاز’: معجزة استعادة أرشيف الجاسوس كوهين من سوريا بعملية دقيقة للموساد.. إليكم القصة الحقيقية التي يكاد الجميع يتجاهلها

عبد الباري عطوان
احتفالات ضخمة في دولة الاحتلال الإسرائيلي بالإنجاز العظيم الذي حققه جهاز “الموساد” بإسترجاع 2500 وثيقة وصورة ومقتنيات شخصية كانت ضمن الارشيف الرسمي السوري الخاص بالعميل ايلي كوهين الذي جرى اعتقاله، وتنفيذ حكم الإعدام شنقا به في ساحة المرجة في 18 آيار (مايو) عام 1965.
البيان الذي صدر عن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المتهم اسرائيليا بالفشل في استعادة الاسرى “عسكريا” طوال اكثر من عام ونصف العام من عدوانه على قطاع غزة، وليس عن جهاز الموساد، تحدث عن “عملية سرية معقدة” نفذها الجهاز بالتعاون مع جهة استخبارية شريكة، دون تسميتها، في محاولة مقصودة، ولكن مفضوحة وغير ذكية، لإخفاء “عملية التسليم” شبه المؤكد لهذه الوثائق من الجهات الرسمية السورية الحاكمة حاليا، والمبالغة في الوقت نفسه في ترميم صورة الجهاز التي انهارت كليا بعد عملية “طوفان الأقصى”، واختراق رجالها كل الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، وتنفيذها بدقة متناهية بات يجري تدريسها في كل الاكاديميات الأمنية العالمية.
***
لا نعرف أين هو الإنجاز الكبير الذي يتحدث عنه ديفيد برنيع رئيس الموساد حول نقل هذه الوثائق والصور والمقتنيات الخاصة للعميل كوهين، بما في ذلك تسجيلات حول التحقيقات معه، وجوازات سفر مزورة استخدمها، ووصيته لعائلته التي كتبها بخط يده قبل ساعات من إعدامه، فلو تمكن الموساد من استعادة هذا الأرشيف قبل وصول النظام السوري الجديد الى السلطة، لما اختلفنا مع هذا التوصيف، أو هذا الإنجاز، ولكن وعلى مدى 55 عاما فشل هذا الجهاز “المنفوخ” في استعادة الأرشيف، او حتى الوصول الى رفات الجاسوس المذكور، رغم تدخل أجهزة مخابرات عالمية للوصول الى قبره، بما فيها المخابرات الروسية التي بذلت جهودا كبيرة، ومارست ضغوطا ضخمة على النظام السوري السابق في هذ الاطار، ولكنها فشلت فشلا ذريعا.
هناك احتمالان يمكن ان يكونا خلف هذا “الإنجاز” المفبرك:
الأول: ان تكون السلطات السورية الجديدة هي التي قامت بتسليم هذا الكنز الاستخباري الى جهاز الموساد الإسرائيلي لتأكيد حسن النوايا في التعاون، وكمقدمة للاعتراف والتطبيع، وتبادل السفارات والسفراء.
الثاني: ان تكون أجهزة الامن السورية الحالية مخترقة من قبل أجهزة المخابرات الإسرائيلية التي زرعت عملاء لها في هذه الأجهزة، وساعدوها في الوصول الى الأرشيف بسهولة، ألم يقل نتنياهو “اننا دعمناهم، وعالجناهم في مستشفياتنا”؟
الاحتمالان واردان، وكلاهما دينان النظام السوري الحالي المؤقت في سورية بالتواطؤ، فهذا الأرشيف هو ملك الشعب السوري، ويمثل جزءا مهما مشرفا في إرثه وتاريخه السياسي والأمني، ويجب ان تتم حمايته، ومنع أي اقتراب منه، من قبل أي جهات خارجية، وخاصة دولة الاحتلال الإسرائيلي التي تحتل ارضه (الجولان والجنوب السوري) ومقدساته، ودولة اسمها فلسطين تشكل اقليما رئيسيا في سورية الكبرى.
نحن، وبالنظر الى تطورات الأيام الأخيرة، نميل الى ترجيح الاحتمال الأول، أي إقدام النظام السوري الجديد على تقديم الأرشيف، ووثائقه، هدية الى دولة الاحتلال الإسرائيلي، وبدعم من الولايات المتحدة الامريكية وبعض الدول العربية.
فبعد اللقاء الذي تم بين الرئيس ترامب و”نظيره” السوري احمد الشرع على هامش زيارة الأول للرياض قبل أسبوع تقريبا، اعلن الرئيس الأمريكي امرين: الأول، رفع الحصار او العقوبات عن سورية الجديدة، واستعداد قيادتها للتطبيع وإقامة علاقات قوية مع تل ابيب، الامر الذي يؤكد بعض التسريبات الإعلامية الامريكية والإسرائيلية، عن لقاءات سرية بين الجانبين، سواء في تل ابيب، او في نيويورك، او حتى باكو عاصمة أذربيجان برعاية تركية، ولا يمكن ان ننسى التصريح الذي أدلة به نتنياهو، وكرره متباهيا اكثر من مرة، وقال فيه انه وكيانه، واجهزته، من أطاح بحكم نظام الرئيس بشار الأسد.
***
الجيش الإسرائيلي، وأجهزة المخابرات الإسرائيلية الأربعة الكبرى، فشلت في الوصول الى الاسرى الإسرائيليين لدى كتائب القسام وسرايا القدس في قطاع غزة، الذي لا تزيد مساحته عن 150 ميلا مربعا، وعلى مدى اكثر من 18 شهرا، فهل يعقل ان تصل الى أرشيف كوهين السري جدا، لو كانت نظيرتها السورية، وقيادتها، غير راغبة في التعاون والتسليم، او تسهيل هذه المهمة، وفي هذا التوقيت الذي يخرج فيه “الموساد” من فشل ليقع في آخر.
مجنون يحكي وعاقل يسمع.
اليوم تسليم، او غض النظر، وتسهيل الاستيلاء على أرشيف الجاسوس كوهين، فما هي المفاجئة القادمة، ونحن لا نلمحّ هنا الى التطبيع، بهذا بدأ عمليا وسريا، ولم يبق غير الإعلان، والمصافحة الرسمية امام شاشات العالم، وما علينا الا الانتظار.