د. نصر سيوب: تأثير العطر ورمزية الشوق: تحليل لقصائد الهايكو للفنان المصطفى كليتي

د. نصر سيوب: تأثير العطر ورمزية الشوق: تحليل لقصائد الهايكو للفنان المصطفى كليتي

قراءة وتحليل ذ. نصر سيوب
              “تَمْضين
               ويبقى عَبَق عِطرك
               شلالُ حَنين!”

ــ مقدمة :
في عالم الشعر المصقول والمختزل، حيث تحمل الكلمة الواحدة ثقل المعنى ودهشة الإيحاء، يتألق فن الهايكو ليجسد عوالم من المشاعر والأحاسيس في ثلاثة أسطر آسرة. وها هو الشاعر المصطفى كليتي ينسج لنا في هذا الهايكو ومضة شعرية آسرة، ترتكز على قوة الحواس والذاكرة ليلامس جوهر الفقْد والشوق: “تَمْضين / ويبقى عَبَق عِطرك / شلالُ حَنين!”. هذه الثلاثية الشعرية ليست مجرد رصد للحظة فراق عابرة، بل هي غوص عميق في تأثير الغياب المستمر، حيث يصبح الأثر الحسّيّ بمثابة فيضان عاطفي لا يتوقف.

في أحضان النص :
ــ التحليل :
يلتقط هايكو المبدع المصطفى كليتي لحظةً إنسانيّةً عابرةً ببراعةٍ، تبدأ بفعل المضارع “تَمْضين” الذي يوحي بالاستمرارية ويُوثِّق حَرَكةَ فِراقٍ سريعةً، لتنقلبَ فجأةً إلى سُكون الأثر وترسيخه الذي تخلِّفه الذاتُ الغائبة عبر الفعل الماضي الناقص (يَبْقَى). والعِطرُ هنا ليس مجردَ رائحةٍ عالقةٍ، بل يتحوَّل عبر المجاز إلى “شلال حنين”، فيُحوِّل الماديَّ إلى معنويٍّ باستخدام صورةٍ طبيعيّةٍ ديناميكيّةٍ (الشلال) لتصوير فيضان المشاعر اللاّمُتناهية. والصدمةُ العاطفية بين سُرعة الرحيل وثِقل البقاء تظهر في التضاد بين الزمنين : المضارع الدالّ على الاستمرار، والماضي الناقص الذي يؤكِّد خلود الأثر. والحنينُ -بوصفه مفهوماً مركزيّاً في الشعر العربي- يُعاد إنتاجه هنا عبر عنصرٍ حِسِّيٍّ (العبق) يربط الغيابَ بالحضور، وكأنَّ الذاكرةَ تخترق الزمنَ المادّيَّ، فالعطر يُذكِّر بالذات الغائبة ويجعلها حيةً في الذاكرة. والإيجازُ الشديدُ للهايكو يزيد المشاعرَ تكثيفاً، فكلماتُ القصيدة القليلة تُشبه نقراتِ فراشةٍ تُحلِّق فوق بركةِ ماءٍ، تلمس السطحَ بلطفٍ لكنها تُحْدِثُ دوائرَ تتّسعُ إلى ما لا نهاية. والثقافةُ العربيةُ تُطلُّ من خلف السطور عبر تقديسها للعطر كرمزٍ للهويةِ والوجودِ، بينما الشكلُ العالميُّ للهايكو يمنح القصيدةَ شموليةً تُذكِّر بأنَّ الحنينَ لغةٌ إنسانيّةٌ لا تحتاجُ إلى أكثر من ثلاثِ لمساتٍ كي تُدوِّي.

خاتمة :
في هذا الهايكو المؤثر ينجح المبدع المصطفى كليتي في التقاط جوهر الفَقْد والحنين بطريقة شاعريّة عميقة. ومن خلال التركيز على حاسة الشم وتحويل الأثر الحسّيّ إلى فيضان عاطفي، يرسم الشاعر صورة خالدة للغياب الذي يظل حاضرا بقوة في الذاكرة والوجدان. إنها ومضة شعرية رقيقة، ولكنها تحمل ثقلا عاطفيا كبيرا، تجعلنا نتأمل في قوة الذكريات والأثر الدائم الذي يتركه الأشخاص في حياتنا حتى بعد رحيلهم.