محمد سعد عبد اللطيف: الذكرى: الثلج والمطر!!

محمد سعد عبد اللطيف
في أوقات لا تعد ولا تحصى، تعود إليّ الذكريات كأمواج من الثلج والمطر، تتساقط في صمت وتغمرني كما غمرتني تلك الأيام في الريف المصري، حيث كان الظلام هو الرفيق الوحيد. بين عتمة الليل وضجيج المطر، تجد الذاكرة طريقها إلى الحضور، تسحبني معها إلى ذلك المكان الذي تبددت فيه أحلامنا بين جدران من الطين، حيث لا كهرباء ولا نور سوى بريق الذكريات التي تغسلها أمطار الزمن. في تلك اللحظات التي كان يبدو فيها أن الحياة توقفت، كنت أعيش بين ضباب من الأسئلة، تسقط عليّ كالثلج الذي كان يتساقط من السماء في أماكن أخرى، بينما تندثر الأجوبة في وحل الماضي. لكن، رغم كل شيء، كان في كل قطرة ماء، في كل تساقط للثلج، شعاع ضئيل من الأمل يلمح في الأفق البعيد.
بينما كنت في غرب بولندا، حيث يطاردني الثلج كما يطاردني شبح الذاكرة، تذكرت تلك الليالي في قاع الريف المصري في قريتنا وأنا طفل صغير، وسط الوحل وغياب التيار الكهربائي والظلام الدامس. كانت البيوت الطينية هناك محاصرة بالظلام، حيث لا ضوء سوى الوميض الباهت لشمعة أو مصباح زيت. كانت الطرقات الضيقة تتحول إلى مجاري للطين، والمطر يزداد كثافة ليغسل الأرض والأرواح معًا داخل البيوت ذات الأسقف المعروشة من أعواد خشب وغاب وطين.
حينما كانت السماء تمطر، كانت أسقف المنازل هي الأخرى تمطر علينا، بينما كنا نعيش في صمت مطبق.
في تلك الأمكنة الموحشة، كنت أعيش بين الطبيعة، ولكن في ظل الظلام الذي يغلف المكان، كان كل شيء يبدو وكأن الزمن قد توقف. كان الغياب هو سيد المكان، غياب النور والأمل، تمامًا كما في السجون حيث كنا محاصرين داخل أسوارنا النفسية. وكانت البيوت الطينية في الظلام تصبح سجناً من نوع آخر، لا يختلف عن تلك اللحظات التي قضيناها في العزلة والوحدة.
وفي شمال ألمانيا على حدود الدنمارك، حيث بحر الشمال والثلج يتساقط، كما كان الثلج يتساقط في مكان آخر، كان المطر هناك يتناثر على الأسطح فتتساقط الذكريات كأمواج متدفقة. كانت الذاكرة تعود، تغرقني في الماضي الذي لا أستطيع الهروب منه. كيف كانت الحياة بين الظلام والوحل؟ كيف تبقى الذاكرة حية في ظل غياب النور، بين جدران من الطين وعتمة لا تنتهي؟
كانت تلك اللحظات مليئة بالأسئلة التي لا تجد جوابًا، كما لو أننا عالقون في حلقة مفرغة من الزمن، حيث لا يبدو أن هناك مفرًا من الماضي. كنا نحاول أن نعيش في هذا الظلام، لكننا كنا نغرق في وحل الحياة البسيطة والمريرة التي لا تترك لنا سوى الذكريات والآلام. كانت الطبيعة القاسية في الريف المصري، مع المطر والوحل، تذكرني بالحياة التي عشتها في تلك المناطق من طقس داخل غرف ضيقة مثل الزنازين التي لا ترى فيها سوى الجدران والماضي الذي يعصر العقل.
ولكن رغم كل ذلك، كان هناك شيء ما في تلك اللحظات الغامضة، في الظلام والمطر، يجعلني أشعر أنني ما زلت على قيد الحياة. رغم الوحدة، ورغم البرد، ورغم أن كل شيء كان محاطًا بالظلام، كانت الذكريات تتدفق كما المطر، تحمل معها شيئًا من الأمل الضئيل، كما لو كانت تدعوني للبحث عن ضوء في نهاية النفق.
لكن هل نقدر حقًا أن نغادر هذا النفق؟ أم أن هذا هو قدرنا، أن نعيش بين ظلام الثلج في أماكن أخرى وظلام الوحل في أماكننا؟
الذاكرة هي الممر الذي لا نملك سوى عبوره، أحيانًا تلوح أمامنا كأشباح الماضي التي تذكرنا بكل شيء وبلا شيء، تحمل في طياتها أسئلة لا تنتهي، ولكننا نتمسك بها لأنها، في النهاية، جزء من وجودنا. كما أن المطر، رغم قسوته، يظل ينقي الأرض، وكأن الذكريات أيضًا، رغم ألمها، تترك لنا دروسًا تظل تنبض بالحياة في عقولنا.
وفي الختام:
بينما يظل الزمن يتساقط علينا كالمطر والثلج، تظل الذكريات تنساب كأمواج لا تنتهي. وبينما نعيش في ظلال الماضي، تظل الأسئلة تلاحقنا، لكن الأمل، مهما كان ضئيلاً، يبقى موجودًا في تلك الذكريات. هي ليست عبئًا نحتمله، بل جزءًا من هويتنا التي نبحث من خلالها عن الضوء في عتمة الحياة. ،!!
كاتب وباحث مصري متخصص في الشأن الجيوسياسي ،،!!