“أمريكا أولاً”: هل قضت على التحالفات التقليدية؟ وهل تراجعت الأهمية الاستراتيجية لإسرائيل؟

“أمريكا أولاً”: هل قضت على التحالفات التقليدية؟ وهل تراجعت الأهمية الاستراتيجية لإسرائيل؟

د. هاني الروسان
رغم محاولة تجاهل العلاقة الافتراضية بين زيارة ترامب لدول الخليج الثلاث وكلمة الرئيس المصري أمام قمة بغداد حول تأكيده أن نجاح التطبيع لا يعني السلام والاستقرار دون حل القضية الفلسطينية، بعد أن كان الأمر حتى الأمس القريب عكس ذلك تمامًا، فإن الربط بينهما بات أمرًا ضروريًا وملحًا لمحاولة استكشاف معالم طريق الغد .
فمنذ أن أطلق ترامب شعار “أمريكا أولاً” مع عودته الثانية، صار من الواضح أن السياسة الخارجية الأمريكية لم تعد تُعير كثيرًا من الاهتمام لمفهوم “التحالفات التقليدية” أو “الالتزامات التاريخية”. حيث بدأ هذا الشعار يتخذ مسارًا دلاليًا يتجاوز مجرد تأكيد أولوية المصلحة القومية الأمريكية، ليعبّر عن تحول بنيوي في نظرة واشنطن إلى العالم وتحالفاتها القديمة.
ولعل تجاهل ترامب لكل من إسرائيل ومصر في زيارته الأخيرة للمنطقة — اللتان لطالما شكلتا حجرَ أساسٍ في الاستراتيجية الأمريكية — مؤشرًا قويًا على ذلك، إلى حد أنه يطرح تساؤلًا مشروعًا: هل نحن بصدد مرحلة موت التحالفات التقليدية؟ وهل دول مثل إسرائيل ومصر فقدت الكثير من قيمتها الاستراتيجية لدى واشنطن؟
وهنا لا بد من توضيح أن العلاقات الدولية عاشت لعقود على إيقاع تحالفات تشكلت في سياق الحرب الباردة. وكانت الولايات المتحدة تبني علاقاتها على أسس جيوسياسية صارمة، من حيث أهمية الموقع والثروات والعداء المشترك للمعسكر الشرقي. في هذه الأثناء، ظهرت إسرائيل كحليف دائم في قلب منطقة مشتعلة، ومصر كقوة إقليمية تضمن التوازن بين النفوذ السوفييتي والغربي. لكن مع نهاية الحرب الباردة وتقدم العولمة والرقمنة، لم تعد تلك المعايير كافية. فالعالم بات أكثر تعقيدًا وأقل مركزية، والتحالفات لم تعد تحكمها حدود واضحة.
فاليوم، لم يعد هناك معنى كبير لحليف لا يستطيع أن يخدم المصالح الأمريكية بفعالية مباشرة وسريعة، سواء على مستوى الاقتصاد أو التكنولوجيا أو الأمن السيبراني أو النفوذ الإقليمي الديناميكي، هذا فضلًا عن كونه عاجزًا عن حماية أمنه الخاص وصار عبئًا عليها. إذ صار معيار التحالف هو “الفائدة الفورية”، لا “الولاء الاستراتيجي”، بعد أن تغيرت عناصر قوة الدولة بصورة جذرية. ولم تعد السيطرة المباشرة على الممرات البحرية أو القواعد العسكرية هي العامل الحاسم، بل صارت البيانات والذكاء الاصطناعي والقدرة على التأثير السيبراني أدوات جديدة لصناعة النفوذ.
وفي هذا الإطار، فإنه من غير المستبعد أن تجد دول مثل إسرائيل — رغم تفوقها التكنولوجي — نفسها “زائدة عن الحاجة” إذا لم تعد وظيفتها حيوية في الاستراتيجية الأمريكية المتحولة. وكذلك مصر، التي تعاني من تراجع اقتصادي وتآكل في دورها الإقليمي وفشل في تحويل موقعها الجغرافي إلى رافعة تأثير حقيقي.
والأدهى أن وسائل الاتصال الحديثة قضت على الميزة الحصرية لبعض الدول، فلم تعد إسرائيل وحدها تمثل “منصة مراقبة” للمنطقة، ولا مصر وحدها تمثل “بوابة أفريقيا والعالم العربي”. صارت واشنطن قادرة على التدخل عن بعد، وبأدوات أكثر مرونة وتخففًا من الكلفة السياسية والمالية.
في مثل هذه التطورات، جاءت زيارة ترامب للمنطقة وتجاهله لكل من إسرائيل ومصر جاء ليفتح باب التساؤلات التي لم تكن قبل ذلك تنطوي على الحدود الدنيا لامكانية مجرد التفكير بها، فمن منظور تقليدي، كان من غير المتصور أن يزور رئيس أمريكي المنطقة دون المرور بتل أبيب أو القاهرة. لكن من منظور “أمريكا أولاً”، فإن الأولوية صارت ليست لطمأنة الحلفاء بل لعقد الصفقات التي تعود على زعامة امريكا للعالم بالفائدة والاستمرارية، فترامب، صاحب الميول التجارية، بات يتعامل مع الدول كما يتعامل مع الشركات: من يدفع، من ينفذ، من لا يثير المتاعب، هو الذي يحظى باللقاء. وفي ضوء هذه العقلية، فإن السعودية الجديدة والإمارات ذات الحضور التكنولوجي والمالي صارت أكثر جذبًا من حلفاء “التاريخ”.
ولكن ذلك لا يجب أن يدفعنا لفهم هذا التجاهل كقطيعة نهائية، فإسرائيل لا تزال تحظى بنفوذ هائل داخل المؤسسات الأمريكية، ولا يمكن لأي رئيس أن يتجاهلها طويلًا دون كلفة سياسية. أما مصر، فتبقى مهمة من منظور أمن قناة السويس ومكافحة الإرهاب واحتواء ملفات الهجرة.
وعليه، فإن ما نشهده اليوم ليس “موتًا تامًا” للتحالفات التقليدية، بل هو “تحول في الرؤية الوظيفية” سيضع الحلفاء القدامى امام تحد صعب ومعقد لاعادة تقييم ادائهم وتحديد اوزانهم، لا من خلال الشعارات أو التاريخ، بل من خلال الأداء الفعلي في الملفات التي تهم الصراع على النفوذ بين الولايات المتحدة ومنافسيها وخلق وامتلاك أدوات التأثير الذكي في محيطهم.
بمعنى آخر، يمكن القول إن تجاهل ترامب لكل من إسرائيل ومصر في زيارته الأخيرة ليس مجرد خطأ او سهو او تعبير عن غضب لسبب ما، بل تعبير عن مسار جديد في التفكير الاستراتيجي الأمريكي. فـ”أمريكا أولا ً”تعني أيضًا “الآخرون لاحقًا، أو لا شيء”. وفي هذا المسار، لم تعد العواطف التاريخية ولا الشعارات التقليدية تكفي للحفاظ على مكانة الدولة في قلب السياسات الأمريكية. فالقيمة الاستراتيجية اليوم تُبنى بالفعل، لا بالانتماء. ومن لا يستطيع أن يُعيد تعريف دوره في النظام الدولي الاخذ بالتشكل، فسيجد نفسه خارج حسابات القوة، ولو كان في يوم ما “الحليف المفضل”
/ استاذ الاعلام في جامعة منوبة