زهير عبدالله الشرمان: الاقتصاد الأردني والتحديات من إملاءات صندوق النقد الدولي إلى تأثيراتها على معاشات المتقاعدين

زهير عبدالله الشرمان: الاقتصاد الأردني والتحديات من إملاءات صندوق النقد الدولي إلى تأثيراتها على معاشات المتقاعدين

 

زهير عبدالله الشرمان

حين تسال اردنيا اليوم كيف حالك اقتصاديا ؟ لا يجيبك بلغة الارقام بل بزفرة تختصر حالا عاما من الانهاك، ففي بلد لطالما اعتبر واحة أمن و استقرار اصبحت الحياة فيه تمرينا يوميا على الصبر والمعيشة  ووجها اخر للتماسك في وجه التحديات التي لاتنتهي.
بحسب بيانات وزارة المالية بلغ الدين العام في مطلع 2025 نحو 44.5 مليار دينار اي ما يعادل 117.2% من الناتج المحلي الاجمالي، نصيب الفرد من هذا العبء قارب 3800 دينار بمن فيهم الأطفال والرضع والشيوخ، فيما بلغت خدمة الدين في اول شهرين من نفس  العام 296.1 مليون دينار منها 189 مليونا فوائد و107 ملايين اقساط، اما العجز المقدر في موازنة 2025 فقد بلغ 2.258 مليار دينار ما يجعل الحديث عن خفضه الى 2% من الناتج المحلي اقرب الى حلم  وردي مؤجل في ظل تباطؤ النمو وضعف الانتاج.
على الجبهة الاجتماعية المشهد لا يقل قتامة، فمعدل البطالة عام 2024 بلغ 21.4% علما ان بطالة النساء وصلت الى نحو 33% ، ويعيش قرابة 35% من المواطنين تحت خط الفقر اي ما يزيد عن اربعة ملايين اردني وفق تقديرات البنك الدولي!!، ففي وطن ينتج الآف الخريجين من الجامعات سنويا  ، لكنه يدخلهم الى طوابير الانتظار بدلا من سوق العمل فيما تتحول الشهادات الى وثائق مؤجلة الاستعمال.
بدوره الميزان التجاري ينزف فقد بلغ العجز لنهاية تموز في 2024 نحو 5.376 مليار دينار وسط واردات تجاوزت 10.742 مليارا مقابل صادرات لا تتعدى 5.366 مليارات، علما مازلنا نعتمد على الخارج لتأمين اكثر من 88% من احتياجات الغذاء والطاقة مما يجعل البلاد عرضة لاي ارتجاج عالمي دون وجود درع صناعي او زراعي واق.
الضرائب تعتبر العمود الفقري لايرادات الدولة حيث شكلت 73% من الدخل الحكومي حين بلغت حصيلة ضريبة الدخل والمبيعات والمساهمة الوطنية 6.084 مليارات دينار في 2024، ورغم هذا الثقل الجبائي المنهك، فان المواطن لا يشعر بتحسن ملموس في مستوى الخدمات مما يعمق فجوة الثقة ويزيد منسوب عدم الرضى.
وفيما يُفترض أن يكون صندوق الضمان الاجتماعي صمام الأمان الأخير، والصندوق المقدس الذي لا تجرؤ الحكومات على مد أيديها إليه، وجد نفسه هو الآخر في عين العاصفة. فقد اقترضت الحكومة منه حتى نهاية عام 2024 نحو 9.279 مليار دينار، أي ما يعادل 57.7% من موجوداته المقدرة حينها بـ 16.1 مليار دينار. هذا الاعتماد المتزايد على أموال المتقاعدين لسد نفقات الدولة يثير تساؤلات جوهرية حول استدامة الصندوق وقدرته المستقبلية على الوفاء بالتزاماته تجاه الأجيال القادمة.
منذ عام 1989 ارتبط الاردن باكثر من 16 اتفاقا مع صندوق النقد الدولي، حيث  تضاعفت الضرائب و تم رفع الدعم وبيعت العديد من اصول الدولة الاستراتيجيه ،لكن مع ذلك لم تلتحق مؤشرات النمو والتنمية والعدالة بالركب المأمول ،فالخطاب الحكومي عن التمكين لا يزال معلقا في الهواء بعيدا عن هموم الشارع الذي يرى في هذه السياسات الا مزيدا من التقييد وليس التحرير الذي يؤدي الى التطوير الفعلي.
في زاوية اخرى من هذا العالم المنهك يقف الاردن صلبا يتحمل عبء اللاجئين رغم محدودية موارده حاملا فوق كتفيه ما عجزت عن حمله اقتصادات كبرى ، فقد استقبل ما يقارب 1.3 مليون لاجئ سوري لا لانه اغنى الدول ولا لانه الاكثر قدرة بل لان الضمير الانساني هناك ما زال يعمل.
ففي عام 2022 تلقى الاردن نحو 4.4 مليارات دولار كمساعدات منها 1.66 مليار لدعم موازنته في حين تتجاوز كلفة استضافة اللاجئين وحدهم 4 مليارات سنويا، معادلة غير متوازنة ليست في الارقام وحدها بل في القيم التي اصبحت ترفا على موائد السياسة.
غير ان الاخطر لا يكمن في الارقام وحدها بل في اتساع الفجوة بين المواطن الأردني وصانع القرار، فبينما تروج الحكومات لرؤى اقتصادية ومبادرات تحديث يشعر الاردني انه يخوض معركة نجاة معيشية يومية لا مشروعا للنهضة، هذا الانفصال بين الخطاب والواقع لا يهدد فقط فرص الاصلاح بل قد يجهضها قبل ان تولد.
لكن ربما لا تزال هناك فرصة كامنة في زوايا هذا المشهد المثقل لا تحتاج الى معجزة، بل الى ارادة وطنية صادقة لا دعائية، تسمع الصوت الخافت خلف الارقام وتعيد تعريف الاصلاح لا كمسار فوقي مفروض، بل كاتفاق توافقي ينبثق من حوار اقتصادي وطني جاد يشرك العقول المبدعة لا يقصيها، ويحرر الطاقات بدل ان يعيد انتاج العجز. فالوطن الذي صبر كل هذا الزمن يستحق ان يكتب تاريخه بارادة ابنائه المخلصين، لا باقلام المانحين ولا باياد ساهمت في صناعة اوجاعه.
لكن ربما لا تزال هناك فرصة كامنة في زوايا المشهد، لا تحتاج الى معجزة، بل الى ارادة حقيقية لا دعائية، تسمع الصوت الخافت خلف الارقام وتعيد تعريف الاصلاح لا كمشروع فوقي مفروض، بل كمسار توافقي ينبثق من حوار اقتصادي وطني فعلي جاد يشرك العقول المبدعة بدل ان يقصيها ويحرر الطاقات بدل ان يعيد انتاج العجز. فالوطن الذي صبر كل هذا يستحق ان يكتب تاريخه بارادة ابنائه المخلصين الموثوقين لا باقلام المانحين او الأيادي التي ساهمت في صنع أوجاعه.

كاتب أردني
.