رسائل نووية مُشفّرة!

نجاح محمد علي
تقف المفاوضات النووية بين إيران والولايات المتحدة على مفترق طرق يحمل في طياته احتمالات الحل والتصعيد على حد سواء.
وسط هذا المشهد المعقد، أطل الإمام السيد علي الخامنئي، القائد الأعلى للجمهورية الإسلامية، يوم الثلاثاء 20 مايو 2025، بتصريحات حاسمة بمناسبة إحياء ذكرى الرئيس الراحل سيد إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية أمير حسين عبد اللهيان ، ألقت بظلالها على مسار الحوار. فقد وصف مطلب الولايات المتحدة بمنع إيران من تخصيب اليورانيوم بأنه “هراء محض”، مؤكداً أن إيران “لا تنتظر إذن أحد” لمواصلة برنامجها النووي، وأن للجمهورية الإسلامية سياساتها الخاصة التي ستتبعها بثبات.
هذه الكلمات، التي جاءت رداً على الضغوط الأمريكية المتصاعدة، إشارة واضحة إلى أن إيران مستعدة لإبرام اتفاق نووي جديد إذا أبدى الرئيس دونالد ترامب جدية في رفع العقوبات، لكنها حذرت من أن التأخير والتصعيد لن يكونا في مصلحة من يدعي منع إيران من امتلاك سلاح نووي.
تصريحات الإمام الخامنئي جاءت في سياق توتر متزايد، حيث أعلن ترامب أن على إيران اتخاذ قرار سريع بشأن مقترح نووي زعم أنه قُدم خلال أربع جولات من المفاوضات غير المباشرة بوساطة عمانية. لكن طهران نفت بشكل قاطع تلقي أي مقترح مكتوب، مؤكدة أن ما طُرح لم يتجاوز أفكاراً شفهية غامضة.
مصدر سياسي إيراني رفيع المستوى، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته، أوضح أن “الأفكار الشفهية لا تشكل أساساً لتفاوض جاد”، نافياً مزاعم المسؤولين الأمريكيين حول تقديم عرض رسمي. مصدر آخر في طهران أكد أن “لم تُقدم أي مواد مكتوبة”، مما يعكس استمرار حالة عدم الثقة التي تسيطر على الحوار.
الخلاف الأساسي يكمن في إصرار واشنطن على وقف كامل لتخصيب اليورانيوم في إيران، وهو مطلب رفضته طهران بشدة، معتبرة إياه غير قابل للتنفيذ.
إيران، التي ترى في برنامجها النووي السلمي حقاً سيادياً، ترفض أي مقارنة مع تجربة ليبيا في تفكيك برنامجها النووي.
و تثير التقلبات الأمريكية بشأن التخصيب، وصولاً إلى التصريحات العلنية عن التخصيب الصفري، نقاشاً داخلياً حول جدوى مواصلة المفاوضات في هذا الوقت، وسط دعوات إلى وقفها و التلويح بالانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي التي لم يوقع عليها الكيان الصهيوني ، وطهران كما يبدو، لم تقرر بعد ما إذا كانت ستحضر الجولة الخامسة من المحادثات المقبلة في إيطاليا، مما يعكس حالة الحذر التي تسيطر على القرار السياسي.
في منتدى حوار طهران، الذي عُقد في 18 مايو 2025، برزت هذه القضية كمحور نقاش رئيس. الرئيس مسعود بزشكيان، في كلمته أمام قاعة مكتظة، أكد أن “حق إيران في برنامج نووي سلمي غير قابل للتفاوض”، مشدداً على أن العقوبات والضغوط لن تجبر طهران على التنازل عن سيادتها العلمية. وأضاف: “نحن دولة موقعة على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، ويجب احترام حقوقنا وفق المعايير الدولية”.
وزير الخارجية عباس عراقجي عزز هذا الموقف، داعياً إلى اتفاق “عادل ومتوازن” يضمن رفع العقوبات بشكل شامل. في منشور على أكس، كتب عراقجي: “تذكروا كلامي: لا يوجد سيناريو تتخلى فيه إيران عن حقها في التخصيب السلمي”، منتقداً الرسائل الأمريكية “المربكة” حول التخصيب.
تصريحات الإمام الخامنئي أضافت بعداً جديداً للأزمة، حيث أكد أن الولايات المتحدة تسعى من خلال المفاوضات إلى إظهار أنها أجبرت إيران على الجلوس إلى طاولة الحوار بالتهديدات والضغوط. وأشار إلى تجربة الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، الذي رفض الخضوع لهذا النهج، مضيفاً: “الشهيد رئيسي لم يسمح بذلك، ولن نسمح نحن أيضاً”. هذا الموقف يبرز شعوراً إيرانياً متزايداً بأن التشدد الأمريكي، الذي تجلى في فرض عقوبات جديدة على كيانات مرتبطة بالبرنامج النووي والصناعات النفطية، يهدف إلى إضعاف طهران بدلاً من بناء الثقة.
في هذا السياق، برزت تهديدات كيان الاحتلال الصهيوني كعامل إضافي يزيد من تعقيد المشهد. تقارير من الإعلام العبري، مثل القناة 12، أشارت إلى “قلق عميق” في أوساط الاحتلال من تقدم المفاوضات، مع تحذيرات من أن أي اتفاق قد يعزز نفوذ إيران في المنطقة.
مسؤول في الاحتلال، تحدث للقناة، وصف المفاوضات بأنها “في منعطف حرج”، مشيراً إلى أن الاحتلال يستعد لخيارات عسكرية إذا فشل الحوار.
تحليل نشرته صحيفة “هآرتس” لتسفي برئيل حذر من أن هجوماً على المنشآت النووية الإيرانية قد يؤدي إلى رد فعل قوي من إيران وحلفائها، مثل حزب الله، مما يجر المنطقة إلى حرب كارثية.
الصحف الغربية، مثل “نيويورك تايمز”، أشارت إلى أن ترامب يتجنب حالياً حرباً مباشرة، لكنه يواجه ضغوطاً من الاحتلال لتبني موقف أكثر صرامة.
رغم كل هذا الضجيج، تبدي إيران، استعدادًا لافتاً لإبرام اتفاق نووي جديد، وتحذر أصوات فاعلة في الوقت نفسه،من أن إيران تملك القدرة على تطوير سلاح نووي لكنها ترفض ذلك لأسباب دينية، مشيرة إلى أن أي تهديدات عسكرية ستُقابل برد فعل قوي قد يشمل إعادة النظر في التزامات إيران بمعاهدة حظر الانتشار.
هذا التحذير يمهد إلى تحول في الموقف الإيراني من المرونة التفاوضية إلى استعداد للتصعيد إذا استمرت الضغوط.
منتدى حوار طهران شهد نقاشات موسعة حول هذه القضية، حيث أكد وزير الخارجية العماني بدر البوسعيدي تفاؤله بشأن المفاوضات، مشيراً إلى أن الجولة الأخيرة في مسقط تضمنت “أفكاراً مبتكرة” قد تمهد الطريق لاتفاق.
في منشور على أكس، كتب البوسعيدي: “مأساة غزة تذكرنا بما يحدث عندما يفشل الحوار”، مؤكداً أهمية الدبلوماسية في منع التصعيد.
على هامش المنتدى، عُقد اجتماع ثلاثي ضم عراقجي والبوسعيدي ورئيس الوزراء القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، ركز على القضايا الإقليمية والمفاوضات النووية. أعربت قطر عن دعمها الكامل للوساطة العمانية، مؤكدة التزامها بتعزيز الأمن الإقليمي.
في خط مواز، شهدت المفاوضات مع الدول الأوروبية (بريطانيا، فرنسا، ألمانيا) توترات ملحوظة. في 16 مايو 2025، التقى دبلوماسيون أوروبيون بنظرائهم الإيرانيين في إسطنبول، حيث طالبوا بضمانات صارمة تشمل آلية “كبح الزناد” الإضافية. صحيفة “فرهيختكان” الإيرانية وصفت المحادثات بأنها “متوترة”، مشيرة إلى تهديدات أوروبية بإعادة فرض عقوبات الأمم المتحدة إذا فشل الحوار. نائب وزير الخارجية الايراني مجيد تخت روانجي أكد أن إعادة العقوبات ستدفع إيران إلى اتخاذ إجراءات حاسمة ضمن إطار المعاهدة.
من بين المقترحات التي طُرحت، اقتراح إقليمي لإنشاء اتحاد لتخصيب اليورانيوم يضم إيران والسعودية والإمارات تحت إشراف دولي. يهدف هذا المقترح إلى السماح لإيران بتخصيب اليورانيوم لأغراض مدنية تحت رقابة مستمرة، لكنه يواجه تحديات بسبب المواقف الأمريكية والأوروبية المتشددة.
لكن مع اقتراب انتهاء آلية “كبح الزناد” في أكتوبر 2025، تزداد الضغوط على جميع الأطراف. إيران تسعى إلى رفع العقوبات لإنعاش اقتصادها، بينما تسعى الولايات المتحدة إلى إنجاز دبلوماسي يعزز إرث ترامب. لكن الخلافات حول التخصيب والتهديدات الأوروبية تهدد بتعقيد المسار.
التشدد الأمريكي و تهديدات الاحتلال تدفعان إيران نحو إعادة صياغة استراتيجيتها، من المرونة إلى التصعيد. الحل يكمن في بناء الثقة عبر رفع العقوبات تدريجياً مقابل التزامات نووية قابلة للتحقق، مع إشراك أطراف إقليمية في الحوار. أما التهديدات العسكرية، فهي وصفة لكارثة إقليمية. و الأسابيع القادمة ستحدد ما إذا كان الحوار سيفضي إلى اتفاق، أم إلى تصعيد يعيد رسم معادلة الصراع في المنطقة.
كاتب مختص بالشأن الايراني