الدكتور طارق ليساوي: دور المدرسة “القيلشية” في تعزيز الفساد من خلال تزويدها بفاعلين جدد.

الدكتور طارق ليساوي
أشرت في مقال “تفسد الأسماك من رؤوسها وتفسد المجتمعات من نخبها..” ، إلى أن تحميل مسؤولية و إثم الفساد لعامة الناس و للشعب منهج غير سليم علميا و عمليا ، لأن الفساد في مجتمعاتنا العربية مخطط له و منظم بشكل عجيب ، و مؤسسي بشكل فريد.. و تبعا لذلك، فإننا نجانب الصواب إذا نسبنا الفساد المستشري في مجتمعاتنا العربية إلى انحطاط أخلاقي لدى الشعوب، فليس هناك شعب صالح وشعب فاسد، فبقدر ما تكون الحكومات صالحة بقدر ما تكون الشعوب مستقيمة وشريفة. إنها معادلة بسيطة جداً، فصلاح الأولى يعني بالضرورة صلاح الثانية. .
و إعتمدت في تحليلي على قوانين إبن خلدون ، فالفساد في أي أمة يبدأ من رأسها، ومن أبرز و أخطر مظاهر هذا الفساد تحول الحكام والوزراء والولاة إلى تُجار، أو جمعهم بين السلطان والتجارة، وهذه الظاهرة لا تخص بلدًا بعينه، بل تكاد من “عموم البلوي”. و سنشرح في هذا المقال بتفصيل أكبر و جهة نظر غبن خلدون، للنتقل في مرحلة موالية إلى توضيح دور النخب في التغير ..
غلط فادح
أشار ” ابن خلدون” في مقدمته ، إلى أنه حينما يقصر الحاصل من الجباية عن الوفاء بالحاجات والنفقات وتحتاج الدولة إلى مزيد من المال فنراها تلجأ تارة إلى وضع المكوس وتارة إلى استحداث التجارة والفلاحة على تسمية الجباية (أي على اعتبار أنها ضرائب مباشرة تجبى من المستهلكين) لما تشهد من حصول التجار والفلاحين على غلات واسعة مع يسار الأموال وكون الأرباح على نسبة رؤوس الأموال فتأخذ الدولة في اكتساب الحيوان والنبات وشراء البضائع وطرحها في الأسواق ظناً منها من عظم المردود وتكثير الأموال غير أن هذا على رأي “ابن خلدون” غلط فادح يدخل الضرر على الرعايا من وجوه متعددة أهمها: عدم حصول الناس على أغراضهم وقيامهم بالأعمال المماثلة التي يقوم بها السلطان لعدم قدرتهم على منافسة السلطان لقوته وكثرة ماله فيقول: (ولا يكاد أحدهم يحصل على غرضه في شيء من حاجاته ويدخل على النفوس من ذلك غم ونكد). فضلاً عن أن السلطان ينتزع الحيوان والبضائع بثمن منقوص أو بأيسر ثمن إذ لا يجد من ينافسه في شرائه فيبخس ثمنه على بائعه وقد يجبر السلطان التجار على شراء المستغلات ولو أدى ذلك إلى كساد الغلات عندهم مما يوقع التجار في خسارة عظيمة. ولكن ماذا تكون النتيجة….؟ فإذا ما قايس السلطان بين ما يحصل من الجباية وبين هذه الأرباح وجدها بالنسبة إلى الجباية أقل من القليل. هذا من ناحية وأما من ناحية أخرى فإن انعكاس ذلك على المجتمع سيكون سيئاً لأن الرعايا إذا قعدوا عن تثمير أموالهم في الفلاحة والتجارة نقصت وتلاشت وكان فيها إتلاف أموالهم ومن ثَم خراب العمران.
وظيفة الحاكم
ويفترض أن للحاكم وظيفته محددة ومهمته واضحة، وهي القيام على أمر الدين والدنيا في حياة الناس، وإقامة العدل بينهم، وحفظ الأمن، والضرب على أيدي المفسدين والمجرمين حتى يأمن الناس على أموالهم وأعراضهم ودمائهم، ويتفرغوا للعمل والإنتاج وعمارة الأرض والبلاد. بيد انه إذا اشتغل الحاكم أو من يعاونه من وزراء أو من هم دونهم في السلطة بالتجارة (البيزنس)، فأول ضرر يحصل من ذلك أنهم لم يعودوا متفرغين لمهمتهم الأصلية التي اختيروا من أجل القيام بها، لأن تلك المهمة تستغرق الوقت كله، وكل إنفاق لوقت الحاكم ومَن يعاونه في غيرها سيعود بالنقص على أدائها والقيام بـها حق القيام. فضلا عن حرصهم الشديد ومراعاتهم لتنمية ثرواتهم، والعمل علي ذلك بشتي السبل وعلي رأسها استغلال سلطاتهم المخولة لهم. فالغلبة ستكون لهم في النهاية؛ فهم (الأقوى جاهًا وسلطةً)، وسوف يخلي الناس لهم الطريق إلى ما يريدون حتى ولو لم يستخدموا “سلطات أجهزتهم “فسيوظفون “العام” لصالح “الخاص”، وستتحول “المواقع العامة” إلى “دكاكين خاصة”.
العدل أساس العمران
و مادمنا استحضرنا تشخيص ابن خلدون لحالة زواج السلطان بالتجارة و تأثير ذلك على خراب العمران، فمن الجيد الإستماع لعلاجاته الفعالة لهذه الظاهرة المدمرة للعمران فقد أشار ابن خلدون إلى أن أول ما ينمي الجباية ويثريها ويديم نماءها : ” إنَّما يكون بالعدل في أهل الأموال والنظر لهم بذلك ، بذلك تنبسط آمالهم ، تنشرح صدورهم للأخذ في تثمير الأموال وتنميتها، فتعظم منها جباية السلطان.”.و مفهوم العدل في أهل الأموال عند “ابن خلدون” يعني: تأمين أموال الناس ، وعدم مصادرتها ، وإفساح المجال أمامهم للنشاط التجاري والزراعي والإنتاج ، وعدم الغلو في فرض المكوس ، ومراقبة السلطان لأنصاره وحاشيته من مضايقة أصحاب النشاط الاقتصادي، وكأنَّما يريد أن يُنبِّه إلى القاعدة الاقتصادية الحديثة التي فحواها: أنَّ رأس المال “جبان”، و ينمو و يتوسع حيثُ يوجد العدل والأمن والاستقرار ،ويهرب ويختفي حيثُ الظُّلم والفساد والفوضى والمصادرات.
زواج السلطان بالتجارة
أما العنصر الثاني الذي يسهم في تنمية دخل الدولة (الجباية) أن يمتنع السلطان عن التجارة والفلاحة، وعن منافسة العاملين بها في أنشطتهم وحركتهم..
لذلك، فقد أشاد ابن خلدون بالسلاطين، الذين يكتفون بسلطة الحكم، ولا يخلطون بين الإمارة والتجارة، وهو ما بقي مثلاً أعلى للحكام العرب، الذين تميّزوا عن غيرهم بالنزاهة ونظافة الذمة، على ندرتهم في تاريخنا وواقعنا.
نموذج عملي
و ما أشار إليه ابن خلدون مستمد من روح الإسلام و عمل الصحافة و تحديدا موقف “عمر بن الخطَّاب” من “أبي بكر الصديق” رضي الله عنهما حين ولي “أبو بكر” أمر المسلمين بعد انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، فقد أصبح أبو بكر ذات يوم ،وقد صار خليفة ـ وعلى ساعده أبراد ـ أي أثواب مخططة ـ يذهب بها إلى السوق ،فلقيه الفاروق “عمر” وسأله: أين تُريد؟ فقال الخليفة: إلى السوق ،قال: تصنع ماذا ،وقد وُلِّيت أمر المسلمين؟ قال أبو بكر: فمن أين أُطعم عيالي؟ فصحبه عمر، وذهبا إلى “أبي عبيدة” أمين بيت مال المسلمين ليفرض له قوته وقوت عياله، ففرض له ستة آلاف درهم في العام إنَّ ما يصدر عن عمر وأبي بكر وأبي عبيدة يعتبر تشريعاً إسلامياً أصيلاً ، فثلاثتهم من كبار الصحابة وأعلامهم. فهذه الحادثة تؤكد علي منع اتجار السلطان ـ شخصاً كان أو نظاماً ـ
و من يحلل موقف عمر وأبي بكر وأبي عبيدة رضي الله عنهم ، و كلام “إبن خلدون” و يقارنه بكلام بعض من يدعون اليوم ، الدفاع عن بيضة الإسلام و مصلحة الأمة ، يصاب بالدهشة و الصدمة من سكوتهم على حجم الفساد و الظلم البين الذي يسود مجتمعاتنا العربية و الإسلامية من جمع بين السلطان و التجارة ، بل يخرج علينا البعض و يقول بوضوح أن هذا الأمر ليس من شأني و ليس وقته و ” لكل مقام مقال” و هلم جرا من المبررات الواهية بل و الأدهى يخوف الناس بشكل مبطن عبر عبارات مشحونة بالتهديد “سخونة الراس” و “برودة السجن” …
و نسى هذا الشيخ قول النبي محمد عليه الصلاة و السلام: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه»، وقوله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ۞ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم الواجبات في الإسلام، ومن فرائضه العظام ، أن القيام بذلك في أهل العلم والإيمان والبصيرة من أعظم الأسباب لصلاح المجتمعات الإسلامية ونجاتها من عقاب الله في العاجل والآجل، واستقامتها على الصراط المستقيم، ولهذا يقول الله تعالى : ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران : 110].
من أين لك هذا ؟
فاحتكار السلطة و الثروة أمر لابد من إعادة النظر فيه، فلا إصلاح سياسي و لا استقرار، ما لم يتم الفصل بين الجاه و السلطان ، و ما لم يفعل مبدأ من أين لك هذا ؟ . المغاربة و و معهم باقي الشعوب العربية تتابع كيف يتم التعامل مع الفاسدين في الشرق و الغرب ، و قد أشرنا في أكثر من مناسبة إلى نماذج عملية في التعامل مع الفاسدين ..من العيب أن تحاكم فرنسا و إسرائيل و كوريا الجنوبية و الصين و غيرها .. مسئوليها بشبهة استغلال المنصب…بينما في بلاد الإسلام المال العمومي أصبح مستباحا من قبل فئة قليلة تفعل ما تشاء دون رقيب أو حسيب، بينما بطون جائعة حلمها رغيف عيش لا تجده إلا بشق الأنفس…فهذه البطون الجائعة لن تدافع عن وطن تنكر لأبسط حقوقها…
لسنا ضد الأغنياء بل على العكس جهدهم مشكور ودورهم أساسي في النهوض بالأوطان، لكن شريطة أن يشتغلوا بشفافية و بعيدا عن استغلال المال العام أو القرب من صانع القرار السياسي ، ففي الاقتصاد المعلومة لها ثمن ، فمن هو بداخل المطبخ السياسي ليس كمن خارجه ، فهو يعرف ما يطبخ قبل الجميع وفي مثل هذه المعرفة مكاسب مالية و تجارية جمة…
فمن يدرس تاريخ أعرق الديمقراطيات يدرك أن فصل التجارة عن السلطان و مراقبة مالية الدولة، كانت البوابة الرئيسية لإقامة مجتمعات تسودها الحرية و المساواة والعدالة الاجتماعية ، و بناء مجتمعات متماسكة استطاعت أن تجد لنفسها موقع قدم بين الكبار…
دور المثقف
ان دور المثقف ليس خدمة صاحب السلطة و “مول الشكارة” ، فدور المثقف حسب الجابري رحمه الله ، هو ذلك الذي يلتصق بهموم وطنه وبهموم الطبقات “المقهورة” و”الكادحة” وهو بذلك يقصد “المثقف العضوي “، الذي نحتفظ له بتمثل عن مثقف السبعينات والثمانينات والذي كانت اطروحاته وآراؤه حاضرة في مناقشات ومرافعات الطلبة في الجامعات والملتقيات، مثلما كانت آراؤه تناقش داخل المقرات الحزبية عند الحديث عن الصراع الطبقي ومداخل ثورة البروليتاريا، وهو نفس المنحى الذي ذهب اليه “غرامشي” الذي رفض تعريف المثقف بانه هو حامل تصور النشاط الفكري او الذهني كمسألة او كخاصية متأصلة لطبيعة اجتماعية بعينها، اذ يعتبر “غرامشي” ان العمل اليدوي لا يخلو من فكر والعمل الذهني لا يخلو من جهد عضلي ومن تم فخاصية اعمال الفكر هي خاصية مشتركة بين كل أفراد المجتمع يقول “غرامشي” في هذا الصدد “أن كل الأفراد مثقفون في نظري… ولكن ليس لكل الأفراد وظيفة المثقفين في المجتمع” فالمثقفون، إذن، –حسب غرامشي –يمارسون دوراً حيوياً في تكوين وبناء الأيديولوجيات، لهذا ميّز بين “المثقف التقليدي” الذي ينتسب الى الحقبة التي تسبق ولادة هذه الطبقة الجديدة وهو من يعتبر نفسه ينتمي لفئة قائمة بذاتها في استقلال تام عن الطبقات الحاكمة، إنه مرتبط بنمط أو أسلوب إنتاج فهو يولد مع طبقة ذات دور أساسي في عملية الإنتاج لهذا ارتبطت هوية المثقف التقليدي بثورات البورجوازية، وبين “المثقف العضوي” أي ذلك المرتبط بطبقة معينة حيث يقوم بتنظيم وظيفتها الاقتصادية إنه “الإسمنت ” الذي يربط البنية الفوقية بالتحتية للمجتمع يقول في هذا الصدد: “إن كل فئة اجتماعية ترى النور في بادئ الأمر على أرض وظيفة أساسية، في عالم الانتاج الاقتصادي تخلق عضواً، في نفس الوقت الذي ترى النور فيه شريحة أو عدة شرائح من المثقفين الذين يزودونها بتجانسها وبوعي وظيفتها الخاصة، لا في المضمار الاقتصادي فحسب وإنما في المضمار السياسي والاجتماعي أيضاً…” عن كتاب (جان مارك بيوتي، فكر غرامشي السياسي، ترجمة جورج طرابيشي ص ص 17-16) ..
فالسلطة السياسية عندما ترفض الرأي المعارض و المخالف فهي تضر بمستقبلها أولا، و مستقبل الوطن ، و عندما تعمد في تلميع صورتها إلى شراء الولاءات و تمويل أبواق منافقة في رأيها و موقفها ، و لا تقول إلا ما يرضي أصحاب المناصب و المكاسب فهي تحكم على نفسها بالفناء ، لأن دوام الحال من المحال و الوضع وصل درجة يصعب الاستمرار معها ، بل ويصعب علاجها حتى و ان توافرت الرغبة في العلاج و الاصلاح ..
تغدية منظومة الفساد
و عودة إلى فضيحة المتاجرة في الشواهد الجامعية ، فإني أقول بأن “ما بني على باطل فهو باطل” و تبعا لذلك ، فمن حصل على شهادة جامعية أو منصب عن طريق المحسوبية و بنية الفساد، فلن يكون إلا فاسدا و سيضمن استمرارية و تغذية منظومة الفساد بفاعلين جدد.. و الذي ظهر للعلن مجرد قمة الجليد فخريجي و منتسبي المدرسة ”القيلشية ” كثر، والشاهد تفشي الفساد ” ففاقد الشيء لايعطيه ” ، و من حصل على شهادة جامعية أو منصب عن طريق الزبونية و الغش و التدليس و النصب والاحتيال ، فلن تنتظر منه أن يكون “مهاتير ” أو “المنجرة” و إنما فاسد يغذي المنظومة التي أنتجته.. هذا بيان للناس وهدى و موعظة للمتقين” (الآية 138 آل عمران) ..و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون..
كاتب و أستاذ جامعي من المغرب