سعاد خليل: أنغام شعر التفعيلة

سعاد خليل
شكل شعر التفعيلة أحد أبرز تجليات التجديد في الشعر العربي الحديث، حيث استطاع أن يتجاوز العديد من القيود الشكلية التي كانت تميز الشعر الكلاسيكي. هذا النوع من الشعر الذي ظهرت ملامحه بشكل واضح في النصف الثاني من القرن العشرين، يمثل تحولًا هامًا في بنية النص الشعري وموسيقاه، متخليًا عن تقاليد الشطرين ومتخذًا السطر الشعري كوحدة إيقاعية أساسية. وفي هذا السياق، تبرز العديد من الدراسات التي حاولت الإضاءة على خصوصيات هذا الشكل الجديد من الشعر، إلا أن القليل منها تناول الجانب الموسيقي بعمق.
هذا المقال سوف نتناول الجوانب الموسيقية لشعر التفعيلة، مع التركيز على العناصر التي تميز هذا النوع من الشعر، مثل تنوع التفاعيل واستخدام القوافي بحرية، فضلاً عن الأساليب الصوتية الجديدة التي أضفى عليها الشعراء. ومن خلال هذا العرض، نهدف إلى تقديم نظرة شاملة على كيفية تطور هذا الشكل الشعري وتحقيقه لتوازن فني يجمع بين الأصالة والتجديد، مما يفتح أمامه أفقًا واسعًا من الإمكانات المستقبلية.
هذا كما هو معرف لدي الجميع عن شعر التفعيلة وكما كتبنا عنه في مقالات سابقة .
كثيرا من الكتب التي تحدثت عن الشعر الحديث او شعر التفعيلة، الاننا نادرا ما نعثر علي كتاب يحاول بحث الجانب الموسيقي بعمق، وحتي كتاب نازك الملائكة “قضايا الشعر المعاصر جاء محدود الأثر ، يريد ان يفرض قواعد جامدة علي هذا الشكل الجديد ، وقد وجه الكثيرون نقدا هاما وقاسيا الي ذلك المؤلف ، ويكفي دلالة ا ن اثره في الشعراء الحديثين وفي النقد قد اختفي او كاد. ان الخلل جاء من عدم استقراء حركة الشعر ذاتها، واستخلاص العروض الخاصة بها ، او التركيز علي كل الجوانب والمرور بسرعة بالجانب الموسيقي. وبينما تعد دراسة نازك الملائكة “قضايا الشعر المعاصر” من أوائل المحاولات النقدية في هذا المجال، فقد اعتُبرت قاصرة عن تناول الجوانب المتعددة لشعر التفعيلة.
في هذا المقال سوف نتناول الجوانب الموسيقية لشعر التفعيلة، مع التركيز على العناصر التي تميز هذا النوع من الشعر، مثل تنوع التفاعيل واستخدام القوافي بحرية، فضلاً عن الأساليب الصوتية الجديدة التي أضفى عليها الشعراء. ومن خلال هذا العرض، نهدف إلى تقديم نظرة شاملة على كيفية تطور هذا الشكل الشعري وتحقيقه لتوازن فني يجمع بين الأصالة والتجديد، مما يفتح أمامه أفقًا واسعًا من الإمكانات المستقبلية.
يقول بيان الصفدي وهو كاتب من سوريا في مقالة في مجلة الرافد
هناك جهود تحتاج الي مواصلة، قام بها نقاد وباحثون من اهمهم د. عز الدين إسماعيل وحسن عبد لجليل يوسف ود. سيد البحرواي ود. عبد لعزيز نبوي ود. محمود السمان علي تفاوت في الجهد والعمق
ان الحديث ان شعر التفعيلة قام على اختيار تفعيلة معينة مع حرية في استخدام القوافي كلام لا يقول سوء جزء من حقيقة هذا اشعر كما هي في مسارها الإبداعي.
فشعر التفعيلة من ناحية موسيقاه يتضمن الخصائص الكبرى التالية:
يقوم شعر التفعيلة علي مبدأ السطر الشعري في مقابل شعر الشطرين الذي يتشكل علي أساس من التناظر ، والتناظر مظهر أساسي من مظاهر الشكل الكلاسيكي في الشعر العربي .
وشعر التفعيلة يتشكل من الاستخدام الحر للتفعيلة في مقابل البحر في الشعر الكلاسيكي .
وحرية التفعيلة معناها القصيدة لا تقوم علي تفعيلة واحدة وان حصل هذا كثيرا ، بل علي استخدام اكثر من تفعيلة ، وبطريقة حرة يحكمها النظام الخاص الذي يخلقه الشاعر في النص يتألف من تفعيلة أساسية تشترك معها تفعيلة اخري في النهايات ، او ينوع الشاعر فيدخل عدد من التفعيلات الأساسية وخاصة بطريقة المقاطع الشعرية ، او يعمد الي استخدام البحر الكلاسيكي مع إعادة تشكيل ا جزائه تفعيلات وقوافي .
ويلفت نظرنا ذلك التغير الجوهر الذي أصاب ظاهرة معروفة في الشعر الكلاسيكي كانت تعد من العيوب في نص يقوم على وحدة البيت واستقلاله.
واعني بذلك ظاهرة التضمين، وهي تعلق اخر كلمة في البيت بأول كلمة، وغالبا ما تكون جملة مقسومة بين بيتين كقول الأعشى :
ولله عينا من رأي من عصابة اشد علي ايدي السعاة من التي اتتنا من البطحاء يبرق بيضها وقد رفعت راياتها فاستقلت.
وكان التضمين حالة ندرة، الا اناه صار أساسا في بناء شعر التفعيلة، حيث انتهت استقلالية البيت الشعري ، بل صار قصائد كثيرة تقوم علي الترابط الكامل من اول القصيدة الي ا خرها فيما يسمي بالقصيدة المدورة .
ومثلما جري مع التضمين برزت في شعر التفعيلة “فاعلن ” وهي وحدة موسيقية ندر وجودها في الشعر الكلاسيكي، الي الحد الذي جعل الخليل بن احمد الفراهيدي يتجاوزها مع انها تشترك مع فعولن ” في المتقارب ، وهذا ما جعل الاخفش يزعم انه استدرك علي الخلي بحر “المتدارك ” وهو في دائرة ا لمتقارب نفسها .
في اللون الحديث صارت تفعيلة فأعلن من المظاهر الموسيقية البارزة التي تميز شعر التفعيلة من الشعر الكلاسيكي.
بالطبع تظهر هذه التفعيلة سالمة او على شكل فعلن او فعلن :/
يبدو ان هذه التفعيلة لاءمت الإيقاع الحكائي والبوحي السريع الذي سود هذا الشعر، إضافة الي العشر المسرحي والقصصي.
والقافية في شعر التفعيلة اخدت تتشكل علي نحو جديد لم يعرفه شعرنا الكلاسيكي الا نادرا .
فإما ان نجد قصائد بلا قواف ، او قصائد تقوم علي استخدام قافية واحدة يضعها الشاعر حيث يحس بحاجة تلقائية لها ، او ينوع الشاعر في القوافي فيأتي بأكثر من قافية تتوزع بطريقة حرة موافقة للدفقة الشعورية ، او يستخدم نظام المقاطع التي تستقل بقواف موحدة في كل مقطع، والطريقة الأخيرة يضع لشاعر فيها القافية بطريقة محسوبة بدقة وهي حالة قليلة نجدها ند ادونيس ومحمود درويش ومثال عليها قول درويش:
ولد ما طير الان حمامه الي اعلي، الي سقف الغمامة
فلماضا تذرف الغامة هذا الثلج حول الابتسامة؟
طائر ما يحمل الان رسالة بدلا منا الي الأزرق من ارض الغزالة
فلماذا يدخل الصياد في المشهد كي يرمي نباله
برزت في الشعر الحديث ظاهرة الفراغ وهو بياض يفصل بين المقاطع في النص وصمت واجب يفصل قراءة النص بين حين واخر، ويمنع من تواصل القراءة.
انها حالة صوتية تخص شعر التفعيلة لم يعرفه شعرنا الكلاسيكي الذي يقوم علي الوحدة التامة في القراءة والانشاد علي الرغم من تعدد الأغراض والأجواء النفسية في القصيدة.
ولابد من ان نلفت النظر الي ان هذه الخصائص الموسيقية قابلة للضبط والقياس وجعلها اسسا في شعر التفعيلة من الناحية الموسيقية. لا ان هذا لا يلغي الإمكانات الواسعة التي توفرها اللغة العربية كموسيقي داخلية، الا ان الموسيقي لداخلية ليست خاصة بهذا الشكل الجديد، بل ظلت علي الدوام من مظاهر التجارب الشعرية المتوهجة.
والمقصود بالموسيقي الداخلية تلك الترنيمات التي يخلقها الجناس والطباق والقوافي الداخلية والموازنة والتقسيم والتكرار وتوزيع الحروف الصحيحة والمعتلة والمهموسة والمجهورة، مم يكثر عند البحتري والمتنبي قديما وادونيس ومحمود درويش حديث .. تمثيلا لا حصرا.
ان شعر التفعيلة لا يزال يختزن العديد من الإمكانات الموسيقية المبدعة، وعلي الأخص ندما يخرج من الرتابة والضعف ومحدودية الايقاعات التي يستخدمها اكثر شعرائه الان .. لكنه شكل يمتلك المستقبل لأنه مفتوح عليه.
ان شعر التفعيلة ليس مجرد كسر لقيود الشكل الكلاسيكي، بل هو فضاء إبداعي رحب، أتاح للشاعر العربي الحديث التعبير عن همومه وهواجسه بروح أكثر حرية وصدقًا. ورغم ما واجهه من نقد، وما شابه من محاولات تقعيد أو تحجيم، فقد أثبت هذا الشكل الشعري قدرته على التطور والاستمرار، بفضل طاقاته الموسيقية المتعددة وإمكاناته التعبيرية اللامحدودة. إن فهم البنية الموسيقية لشعر التفعيلة لا يكتمل إلا بالإنصات الواعي لتحولاته الداخلية، ومعايشة نبضه الإيقاعي المتجدد. ومن هنا، تظل الحاجة قائمة إلى مزيد من البحث الجاد في هذا المجال، لاستكشاف ما تبقى من كنوزه المخبوءة، وتطوير أدوات نقدية تتماشى مع طبيعته المفتوحة على المستقبل.