أحمد الشيخاوي: سادن شعر السّليقة  

أحمد الشيخاوي: سادن شعر السّليقة  

أحمد الشيخاوي

في حقيقة الأمر، لم أجد أصدق من هؤلاء، ولا أمرّ من تجاربهم المنطوية على جملة من الأسرار، فإذا هم يأبون إلاّ الإفراج عنها، والبوح من غير نفاق ولا أدلجة، بما يكابدون، سواء أكان رياض ورد تعطّر أعماقهم، أم خناجر تمزق ذواتهم.
طالما آمنت بإبداعهم، ورصين ووازن حرفهم، لأنهم من وجهة نظري، فوق العروض وأكبر منه، إذ يجسّدون الحالة الإنسانية التي تفرض باشتراكية هويتها، منظومة ما يكتب لحضورهم الابداعي الخلود، ومقوّمات ما يربك الوعي ويدغدغ الذائقة.
إنهم وبكل ما تحمل الكلمة من معاني للبساطة والعمق، في آن، شعراء السّليقة، المقيّدون بمسؤولياتهم اتجاه القارء المقتنع تمام الاقتناع بضرورة تنويع المشهد، وعدم ترجيح كفّة جنس إبداعي على أخرى، كون ذلك فيه من الجور ما فيه.
إنهم المباهون بالانتماء إلى ذواتهم، فقط، ذواتهم التي أجبرتهم على تفريغ، سواء، ما يثقلها من أوجاع، أو يطربها من مسرّات، بيد أنه إجبار بطعم الاختيار الطوعي النابع من صميم القلب الثرثار المستأنس بأبجديات الكتابة المتحرّرة من كل القواعد والقيود.
ولعل واجبنا إزاء هذا السرب، حسن الاصغاء، قبل أن نطلق الأحكام الجزافية التي من شأنها هدم أجمل ما يمكن أن يجود به مشهد الثراء والتنوع الأجناسي الذي يخدم الثقافة الإنسانية في طور حداثتها بل وما بعد حداثتها، على النحو الباني لأجيال منتشلة من واقع الحيرة والكدر والخدر، سليمة الوعي راقية الذائقة.
لأننا إن ضيّقنا عليهم، وحاولنا فرض الرقابة والوصاية عليهم، واحتكار أحقّيتهم في التعبير، نكون قد جنينا على أنفسنا قبل أن نظلمهم، من دون شك.
خاصة إذا فطنا إلى أن الكثير من الشعر المنتسب إلى الممارسات الخليلية، لا يكاد يتجاوز كونه نظما جافا متيبسا، لا تدب في عروقه روح الشعر أو الشعرية، لا من قريب أو بعيد.
من بين هذه التجارب التي استرعت انتباهي، ما يبدعه شاعر النجود العليا، مثلما تحلو لي تسميته، امحمد لمنيصري، كصوت هشّ قادم من أدغال مغرب العمق.
لقد عشق الكتابة منذ نعومة أظافره، وشبّ على هذا العشق، ولم يزل ذلك ديدنه، بحيث صادق مرايا شعر السليقة، بكل براءة وعفوية وصدق، فعكست هذه المرايا المصقولة، أنوار وأسرار سليقته الخلاقة والمبهرة.
إجمالا، يمكننا جرد أبعاد هذه التجربة السخية والذكية، في ما تتلفّع به من أقنعة للخطاب الصوفي، بشكل مطّرد وتبعا للأهمية والأولوية البالغة، تباعا، على النحو التالي:

أحاسيس الانتماء الدافئة

يمثل مفهوم الانتماء، مرجعا أساسيا، في شعرية لمنيصري السّليقية، ويحرّك سكونية المكنون لديه، ويرجّ رواسب ذاكرته، مسايرة للمنحى الذي يحفز على النهل من تعاليم الوطنية الحرة والقحّة والواعية.
فكتابته في هذا الصدد، تأخذ منحنى تصاعديا، بحيث تبدأ بالهم المحلّي، وتمرّ بالجهوي أو الإقليمي، كي ترسو، أخيرا، على شواطئ الانتماء الإنساني الذي تعدّ الوطنية المسؤولة، نواته الأولى، وعصبه النابض.
نقتبس له قوله:
{فتهافتت أصوات العالمين تشجبكم
مباركة مسعانا وبالألوف
خسرتم وبادرت دول لفضح طرحكم
بعدما درست نتائج التحاليل والكشوف
واتضح أنكم لستم شرعيين لأمكم
تسترزق بكم لملء الجيوب والجوف
وشعب ينعم بالكرامة على مرآى عيونكم
فوق أرضه بخير حال وخير الظروف
متم كمدا وأقبرت مزاعمكم
في ردهات الطي بين الرفوف
ضيّعتم فرصا بالكاد أتتكم
صفحا تبناها وطني بالقلب العطوف
حوصرتم وسجنتم بعقر خرابكم
وتزينت أيامكم بألوان الخسوف
حدّثونا عن الرمال وبما جاد قفركم
نحدثكم عن منجزات بدانيات القطوف}(1).
بهذه الأسلوبية المشوّقة، متدفقة المعاني بانسيابية، وبنبرة خفيضة عاقلة، منتصر لقضيتنا المشروعة والعادلة، قضية الصحراء، يذمّ نزعة التّشردم والتفكك إلى دويلات، في زمن صارخ التحديات يقضي بضرورة، تجاوز الخلافات وتوحيد الصف في مجابهة التكالبات وأطماع الأعداء والمرتزقة.
ويقول كذلك:
{من الشرق أشرق فجرهم
أنوارا سطعت بكم كيف
بدءا بوجدة فما وجدوا
إلا شيما من أمل نظيف
وحطوا بفاس رحالهم وتبركوا
بكل صنو ذي فرع شريف
وأقاموا بالرباط رباطهم
يرومون الحق لا سنن التزييف
وبالبيضاء ابيضت أيادهم
كرما وجودا بالبذل الكثيف
وبتطوان أرخوا حمائمهم
تدعوا للسَّلم والسِّلم حليف
ويوم بسبتة قد دخلوا
فتلقتهم بنسمات الخريف
وإلى طنجة زفّ بالحب عريسهم
من الشمال وقت المصيف}(2).

روح البداوة

يقول في إحدى مناسبات العتاب التي يطبعها السمو الروحي، ويوجهها وازع الحِلم ورجاحة العقل في التّموقف، ونسج ملامح العلاقات الاجتماعية:
{كانوا بدوا والخيل تسكنهم
وغيد النساء والنوق والشاء
حازت شرفا قصائدهم
ستائر أضحت لخير بناء
ألوذ بحمى الإله أروم شفاعته
من نبي كريم تفرّد بالصفاء
وأحمد الله راجيا عفوا وصفحا
فما ادّخرتُ زادا ليوم اللقاء
وأملي صلاة دائمة بلا كلل
على جوهر العقد ذرة النجباء
وعلى آل بيته والصحب قاطبة
أهل التقى في دوحة الشرفاء}(3).
من هنا، يظل للشعر الذي تختزل متونه، وتدبّج معماريته، لغة الضاد الساحرة، جِلدا واحدا أوحدا، لا يتغير، حتى وإن أخذ شكل القصيدة تمظهرات، اقتضاها التطور الإنساني والعربي، على مرّ العصور.
إنها روح البداوة التي ما تنفك تسكن هويتنا، وتنكّه وجودنا، مهما انخرطنا في دورات الحضارة والحداثة، وطارت بنا إلى أقاصي الآفاق، الثورة التقنية والتطور.
إنها الروح ذاتها التي أنجبت عمالقة وفحول الشعراء العرب، ممن خلّدت قصائدهم، ونقشت بماء الذهب، راعية لذكراهم، سادنة لملامح أمجادهم.
مثلما يقول:
{وأبلغي سلامي لأهل البذل والجود
عراجين تدلّت من باسقات النخيل
لأهل الفضل أهل العهود
حازوا السبق تفانوا في رد الجميل
وللقصور تخفي جمال القدود
ومخمليات العيون والطرف الكحيل
ويا غزلان المها من تلك النجود
عودي للشرب وارتعي وقت الأصيل
وبوقع خطاك كسّري كل الجمود
وبالنظرات جودي قبيل الرحيل
فكفاك هجرا فلا مزيد من الصدود
وبالوصل جودي ولو بالنزر القليل
فما عهدنا فيك نقضا للوعود}(4).

أسئلة الفقد

يحاور شاعرنا ذاته طويلا، فيحاصرها بأسئلة الفقد، مجسّما لنا معاناة كاملة، مع تجربة الموت.
يستدعى موتاه، يعودون، عبر قصائده، فوجوههم أول ما يفتح، كما آخر ما يغلق، صاحبنا العين، عليه.
لتقبع شريكة حياته السابقة، أم الفلذات، والتي اختطفتها منه يد الردى، مبكرا، على حين غرة، وعلى نحو فجائي، لم يكن ليتوقّعه أحد.. وتظل رافلة في الرمزية والحفاوة التي مهما برعت القصائد وتفننت في صياغتها، فإنها أنأى وأقل من أن تحيط بما يشفى الغليل، أو يجدي حتّى.
نورد له الأسطر الشعرية الموالية، إذ يقول في بكائية مهزومة تتفطر لها القلوب:
{كتبتُ بالأقلام وصغت نثرا
لأرثي دارا كنتُ راعيها
بكيتُ على أطلالها ونظمتُ شعرا
فالدار داري ومن حقّي أبكيها
بعدما أضحت خرابا وقفرا
كأن لا وجود للحي فيها
وصرت أبكيها ظهرا وعصرا
عساي أعزّي النفس فيها
حتّى ارتوى الخد مني دمعا
ولا العينُ جفّت مآقيها
ولولا إيماني لقلتُ: ظلما
فكل نفس الموت لاقيها
فاهدأ يا قلبي وصبرا
واترك الأرواح لحكم باريها
يقول البعض للدار: قبرا
فصدق وجه التشبيه فيها
فبمقابر الدنيا نعيش دهرا
وبمقابر الأخرى الخلود فيها}(5).
ختام القول أنه بنظير هذه المرثاة، وبما هو أثمن وأكثر، أيضا، يمكن أن تجود قريحة مبدع واعد، تكتبه سليقته، ولا شيء عداها، حتى ليبدوا مستسلما كليا، لنوبات الحنين والرغبة في مجاورة عوالم أمجاد العروض، بل ومنخرطا في المحاكاة الوجودية لها، بما هي ناموس الجمال، ودساتير الهشاشة التي ما لبث يُبدع فصولها، ديوان العرب، بشتى أضرب القداسة والعنفوان والتفوق والهيمنة والجبروت، على امتداد التاريخ البشري الشفهي والمطبوع.
هامش:
(1)مقتطف من قصيدة” ذبنا في حب البلاد”.
(2)مقتطف من قصيدة” فخر الانتماء”.
(3)مقتطف من قصيدة” الخيل تسكنهم وغيد النساء”.
(4)مقتطف من قصيدة” همس القوافي”.
(5)مقتطف من قصيدة” حتى ارتوى الخد”.

شاعر وناقد مغربي