مصطفى بن خالد: أفكار استراتيجية شذَّرات من مايو… الذي جاء ليعيش

مـــصـــطــفـــى بن خالد
في زحمة التاريخ العربي الموشوم بالحروب والانقسامات، لا تُولد اللحظات الكبرى من فراغ، بل تُنتزع من فم المستحيل حين تتلاقى الإرادة الشعبية مع الحلم الوطني في لحظة نادرة، تُعلن أن الزمن قد أنكسر ليبدأ من جديد .
في الثاني والعشرين من مايو عام 1990، لم تُكتب فقط صفحة جديدة في تاريخ اليمن، بل وُلد وطن جديد من رحم التشظي، وتوحدت جغرافيا الروح قبل تراب الأرض .
لم يكن ذلك اليوم مجرد خبر عابر في نشرات المساء، بل كان صرخة وعي، ونبض أمل، وذروة مسيرة نضال طويلة دفع فيها اليمنيون دماءهم ثمناً لوطنٍ موحّدٍ حرٍ كريم .
ومع ذلك، يُطرح السؤال الحارق اليوم :
هل لا يزال هذا اليوم حيّاً في وجدان اليمنيين؟ أم أن رياح الحرب والانقسام قد بعثرت معانيه، وطمست ملامحه، حتى بات مجرد تاريخ رسمي بلا روح ؟
مايو لم يكن يوماً عادياً، بل لحظة نهوض، وعهد تأسيس … وعلينا اليوم أن نُعيده إلى الحياة ونحافظ عليه، لأن اليمن لن تستقر، والمنطقة لن تهدأ، دون وحدة تفتح الباب لمستقبل مشترك يسع الجميع .
مايو 1990…
تتويجٌ لنضالٍ طويل أم بداية لتحدياتٍ أكبر ؟
قبل ذلك اليوم المفصلي، لم يكن اليمن مجرد وطنٍ منقسمٍ إلى شطرين، بل كان مسرحاً لتجربتين سياسيتين متناقضتين، وشعباً موحّداً في الحلم ممزقاً على أرض الواقع .
في الشمال، جمهورية خرجت من رماد ثورة 26 سبتمبر 1962، تكافح لبناء دولة وسط تعقيدات القبيلة والصراعات الإقليمية .
وفي الجنوب، جمهورية اشتراكية تشكّلت بعد طرد الاستعمار البريطاني في 1967، مثّلت حالة نادرة في العالم العربي من حيث التوجه والهوية السياسية .
رغم الجراح العميقة وندوب الصراع، ظلّت فكرة الوحدة اليمنية حاضرة في ضمير الشعب قبل أن تكتبها أي وثيقة .
محطات الحوار والتقارب لم تنقطع، حتى جاءت لحظة الإعلان التاريخي في 22 مايو 1990، حين وقف الرئيس علي عبدالله صالح ونائبه علي سالم البيض ليعلنا قيام الجمهورية اليمنية .
لم يكن مجرد اتفاق سياسي، بل إعلان ميلاد وطن جديد في لحظة بدت للعالم وكأنها معجزة، في منطقة اعتادت الانقسام أكثر من الاندماج، والخصام أكثر من المصالحة .
لكن ما إن انجلى غبار الاحتفال، ومشاعر الفرح، حتى بدأت الأسئلة الكبرى تتكشّف :
هل كانت الوحدة ثمرة نضال ووعي وطني حقيقي ؟ أم تسوية عاجلة ولدت في ظروف مضطربة دون أرضية صلبة تستوعب التباينات ؟ وهل كان مايو تتويجاً فعلاً، أم بداية لعقدٍ مليء بالاختبارات الصعبة .
لم تكن الوحدة وليدة صدفة أو صفقة سياسية عابرة، بل جاءت نتيجة تراكمات نضالية وفكرية، وإيمان شعبي بأن اليمن وطنٌ واحد وإن فرّقته الأنظمة .
الحلم الذي تعثّر… ولكن لم يمت
ما إن انقضت سنوات قليلة على إعلان الوحدة حتى بدأت التصدعات تتسلل إلى جدران الحلم، كأن الواقع أراد أن يختبر صلابته مبكراً .
لم تكن المشكلة في فكرة الوحدة ذاتها، بل في غياب الرؤية الوطنية الجامعة، وفي تغوّل السلطة وانفرادها بصناعة القرار، بعيداً عن روح الشراكة التي وُلدت بها الجمهورية اليمنية .
تراكمت الأزمات، واحتدمت الخلافات، حتى أنفجرت في صيف 1994، حربٌ حملت عنوان “ حماية الوحدة ”، لكنها في حقيقتها عمّقت الشروخ بدل أن ترمّمها .
خرج الجنوب منها مهزوماً سياسياً، وشعر كثير من أبنائه بأنهم انتقلوا من دولةٍ إلى هامش، ومن شريكٍ إلى تابع .
أختل ميزان الشراكة، وتوزعت المظالم على الخارطة، فكانت النتيجة جراحاً لا تزال مفتوحة، ومشاعر تهميش لم تندمل، وشعوراً متنامياً بأن ما تحقق في مايو كان حلماً جميلاً…
لكنه تُرك وحيداً في مهب الريح .
ورغم ذلك، لم يمت الحلم. ظل حياً في وجدان من آمنوا بأن الوحدة ليست مُلكاً لنظام، بل حقاً لشعب، وإن تعثّرت، فهي لا تُدفن…
بل تُستعاد .
ليست الوحدة من أخطأ…
بل من خانوها
ما ينبغي أن يبقى حاضراً في الذاكرة الوطنية هو أن فشل النخب في إدارة مشروع الوحدة لا يعني فشل الوحدة ذاتها .
فالوحدة لم تكن يوماً مشكلة، بل كانت حلماً نبيلاً وإجماعاً شعبياً نادراً، ومشروعاً باقياً في ضمير الشعب، وقلبه وعقله .
وواحدة من أنبل المحطات في تاريخ اليمن الحديث .
المعضلة كانت دوماً في من حوّلوها إلى غنيمة، وأداروها بعقلية الإقصاء والمحاصصة، لا بمنطق الدولة والشراكة والمواطنة .
لقد كانت الوحدة فرصة ذهبية لصياغة عقد وطني جديد، يؤسس لدولة مدنية قوية، يتساوى فيها المواطنون وتُصان فيها الحقوق، لكن تلك الفرصة أُهدرت في زحام المصالح الشخصية والحسابات الفئوية الضيقة .
فبدلاً من أن تكون الوحدة بوابة للعدالة والازدهار، تحوّلت، في نظر كثيرين، إلى عبئ تُراد به السيطرة لا الشراكة .
ومع ذلك، فإن جذوة الأمل لم تنطفئ .
فما زال في اليمنيين من يؤمن أن الوحدة ليست حدثاً مضى، بل مشروعاً بقا وسيبقى، وسيعمل رجال الوطن الشرفاء، على ترميمه وصيانته، وتصحيحه :
بشراكة متكافئة، وعدالة شاملة، ومواطنة متساوية، ودولة تُدار بالعقل لا بالغلبة، وبالضمير لا بالمصالح .
فالوحدة التي تُبنى بهذه القيم وحدها تملك القدرة على البقاء …
وعلى جمع اليمنيين من جديد تحت راية وطنٍ يتسع للجميع .
الوحدة لا تُفرض بالقوة، ولا تُبنى بالشعارات …
بل تُستعاد بالثقة، وبإرادة وطنية لا تتبع إلا مصلحة اليمن الكبير ، بعيد عن العمالة والارتزاق والتعبئة للأجنبي الذي يعمل على ترسيخ الانقسام وتفريغ الوحدة من مضمونها.
22 مايو :
بين الرمزية والواقع …
يوم الوحدة الذي لا يزال ينتظر الولادة الحقيقية
في مشهد اليمن اليوم، حيث تتشابك أزمات الانقسام السياسي والمناطقي، تبدو ذكرى 22 مايو وكأنها توقفت عند مرحلة الاحتفال الرمزي، أكثر منها حقيقة عايشها الناس على الأرض .
يحتفي البعض بهذا اليوم كإنجاز تاريخي ضخم يجب أن يُحفظ ويُصان، بينما ينظر إليه آخرون بعين الشك والريبة، معتبرينه مجرد شعار يتوارى خلفه واقع مؤلم من التمزق والاختلاف .
لكن في قلب هذه التناقضات تكمن الحقيقة التي لا تقبل الجدل :
الوحدة اليمنية المجيدة، إذا ما تأسست على قواعد العدالة، والمواطنة المتساوية، والشراكة الوطنية الحقيقية، تظل الخيار الاستراتيجي الوحيد والأكثر واقعية لمستقبل يمن قوي متماسك .
ليس مجرد حلم عابر أو شعار يُرفع في المناسبات، بل مشروع حياة يُعيد ترتيب الولاء والانتماء، ويُحيي الأمل في وطنٍ لا يضيع أحد فيه أو يُهمّش .
اليوم، علينا أن نتجاوز الاحتفالات الشكلية، ونتوجه نحو بناء الوحدة الحقيقية التي تعانق الواقع، فتُعيد للبلاد مجدها وتُضيء درب أجيالها القادمة .
يمكننا أن نحتفل بـ22 مايو، ليس فقط كذكرى لما كان، بل كبوصلة ترشدنا إلى ما يجب أن يكون .
فكل ما تعانيه اليمن اليوم من حروب متواصلة، وتدخلات خارجية، وانقسامات عميقة، ما هو إلا انعكاس لانهيار المشروع الوطني الجامع، الذي لم يُرعَ كما ينبغي، والذي تلاشى بين فوضى المصالح وتغوّل المحاصصات .
ولذا، لمواجهة هذا الواقع المرير، لا بد من إعادة تعريف الوحدة على نحو جذري:
لا كضمٍ قسري أو هيمنة طرف على آخر، بل كعقد إجتماعي جديد يُبنى على أسس متينة من العدالة الشاملة، واللامركزية الحقيقية، والهوية الوطنية المشتركة التي تحتضن التنوع ولا تفرقه .
هذه هي الوحدة التي تحتاجها اليمن اليوم؛ وحدة تقبل الاختلاف، وتكفل الحقوق، وتعيد للشعب ثقته بوطنه وبمستقبله، لتصبح بذلك مشروع حياة متجدد، لا مجرد ذكرى عابرة .
رسالة إلى اليمنيين :
لا تستبدلوا الحلم بالخذلان
في عيد الوحدة، لا نحتاج فقط إلى استذكار الخطابات والاحتفالات القديمة، بل إلى مواجهة الذات .
فالوحدة ليست نصباً تذكارياً في ميدان السبعين، أو في ساحة العروض، بل مسؤولية سياسية وأخلاقية تبدأ من قبول الآخر، والاعتراف بالتعدد، والبحث عن حلول عادلة لكل المظالم .
إن وحدة 1990 كانت فرصة، ووحدة المستقبل يجب أن تكون ضرورة وحقيقة دامغة .
خلاصة :
لا وحدة دون مواطنة …
ولا سلام دون عدالة
وسط جراح عميقة تترك ندوبها على وجدان اليمن، ورغم سنواتٍ عجاف كست الحلم بالخذلان، لا يزال الأمل ينبض في قلوب أبناء اليمن، شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً .
هناك الكثير والكثير ممن يرفضون الاستسلام لتشرذم الواقع، ويصرون على بناء وطنٍ يضم الجميع، لا يميز بين أبنائه، بل يجمعهم على مائدة الشراكة الحقيقية التي تُبنى على العقل والحكمة والعدل، لا على نيران القهر والتهميش .
إنها دعوة لصياغة وطن جديد، يحمل في طياته الاحترام المتبادل، والمواطنة الصادقة، والحقوق المتساوية، كي يعود اليمن حاضنة للجميع، ومصدر أمل يتجدد، لا حقل صراعات ومآسي .
فليكن شعارنا :
لا وحدة بدون عدالة، ولا سلام بلا حق، لأن اليمن يستحق أكثر من مجرد ذكرى ؛ إنه يستحق غداً يُشرق فيه أمل السلام والمواطنة الحقة .
ويظل 22 مايو، بكل ما حُمّل به من تشوهات ومآخذ، محفوراً في ضمير اليمنيين كذكرى نقية، لحلم وطني لا يموت …
بل ينتظر من يُحييه .
حلمٌ لا يُبعث بالشعارات، بل بصحوة الضمير، وبشجاعة الاعتراف، وبجرأة التغيير .
فهل من عاقل، في زمن الجنون، يعيد تصويب البوصلة … نحو يمنٍ يتسع لكل أبنائه، ويستعيد ما فُقد منه :
الكرامة، والدولة، والإتحاد .