زيد عيسى العتوم: “آلة صرف نقدي”!

زيد عيسى العتوم: “آلة صرف نقدي”!

زيد عيسى العتوم

بدأتُ أسمعُ زقزقة العصافير وهي تتشابك بالقرب من نافذتي الصغيرة, ومعها تتسلى خبايا ذاكرتي بنبش خيوطٍ رفيعةٍ وملوّنةٍ من ضحكات الماضي وقهقهات البراءة, أما رفرفة أجنحتها وتصادمها مع الزجاج الفاصل بيننا فسرعان ما يأخذاني سَحباً لتهافت الأيدي والأرجل للنيل من كرةٍ أصلها جورب قديم, استدرتُ بجسدي معانداً تدفق حرارة الشمس نحوي فوجدتها نوعاً من الاحتضان, وفتحتُ بوابات عينيّ لغزو الضوء العابر إليّ فحسبته قَبَساً من المجاملة, أنا الآن في سريري الذي غبتُ عنه خمسة أعوام لكنه لم يغب عن مخيّلتي, وأنا الآن في قريتي التي أحفظ حروفها غيباً دون الحاجة للبحث في خطوط دفاترها المكدّسة في خاطري, وأنا الآن بعد ليلتي الأولى عائد من سَفري ومستمتع بقدَري, انتظرُ صوت أمي يدعوني لِلَمسِ رغيفٍ ساخنٍ وشمّ الجوز الملبّد بالثوم ورؤية الزيت القادم حتماً من مزرابٍ يَصنع الذهب الأخضر, سأحضرُ مبكراً لرؤية تلك اللوحة اللذيذة وسأكون أول الداخلين إلى رقعتها المستديرة, لن انتظر الدعوةَ بل سأدعو نفسي بنفسي حتى لو خالفتُ طبعي وتنكّرتُ لشيمِ  طفولتي.
توجّهتُ إلى المطبخ بلا أيّ عناءٍ فرائحة الفطور تقتادني وتنير لي الدرب, جلستُ على كرسيي المفضل وبالقرب مني جريدة والدي وفنجان قهوته المعتادة, تيقّنتُ من شروق الشمس عندما تلقّفتُ ابتسامة أمي واستشعرتُ النهار برؤية سعادتها لوجودي معها, وفجأة سمعتُ ضحكتها عندما أخبرتها بضرورة ذهابي إلى المدينة المجاورة بأسرع وقت, سأقوم بسحب ما يلزمني من النقود من أحد البنوك الموجودة فيها.
أمي: لن تحتاج الذهاب بعيداً يا بني, لقد أصبح لدينا “صرّاف آلي” في قريتنا منذ عامين, وتستطيع الذهاب إليه مشياً فهو ليس ببعيد عن بيتنا, لقد تطوّرت قريتنا في فترة غيابك وزادت فيها الخدمات بأنواعها المختلفة.
تنفستُ الصعداء لزوال خشيتي من الابتعاد عن بيتنا في يومي الأول, وتعجّبتُ مما سمعته عن علامات التحضّر والرقي في قريتي التي كنت أظنها بائسة ومنسية في غياهب الدنيا, لقد كان كل شيء فيها بدائياً إلى أبعد الحدود قبل سفري, أكملتُ طعامي وهممتُ بالمغادرة من أجل العودة سريعاً, لم أتمالك نفسي من الضحك بينما أمي تُسهب وتجتهد وتكرّر لي وصف ذلك المكان المجاور لنا, أحسستُ أنني سأنتقل من روما إلى ميلانو وأحتاج من يرشدني في رحلتي المعقدة.
وصلتُ الى غايتي بعد خمس دقائق تقريباً, وقفتُ خلف من كانوا قبلي أنتظر دوري, لم أعرف أيّ منهم وأظنهم لم يعرفوني أيضاً, كان أول الواقفين رجلاً في عقده الخامس يتصبب عرقاً وهو يعيد إدخال بطاقته وإخراجها مرات كثيرة, يتحدث مع نفسه تارة ومع الشاشة الصغيرة الماثلة أمامه بنوع من العتب والانزعاج تارة أخرى, يتمتم بكلماتٍ لمن حوله ثم يُخرج من جيب بنطاله قصاصةً مهترئةً من الورق المصفرِّ, يحدّق فيها كما لو كان يشكك في أرقامها وأصلها وفصلها, وعلى يمينه ويساره ثلاثة رجال يطبقون الخِناق على وقفتهِ ويَنظرون معه ويتابعون أصابعه بمنتهى التفحّص والفضول, لم استطع منع نفسي من التحدث اليهم وابلاغهم بضرورة ترك ذلك الرجل وشأنه, وأن ما يفعله هو جزء من خصوصيته التي يجب أن نحترمها جميعاً, ثم ما الفائدة التي سيظفرون بها من فعلتهم تلك, نظر الرجلُ اليّ بعدما سمع ما قلته للمحيطين به.
الرجل: لا ضير في ذلك أيها الشاب, اتركهم ينظرون كما يحلو لهم, لا يوجد لديّ أيّ أسرار مهمة أو حسابات معتبرة احتفظ بها, ثم إنني أرغب بسحب عشرة دنانير هي كل ما يوجد لدي الآن, وليعرف العالم هذه المعلومة الخطيرة, كما أن يد الله مع الجماعة.
ابتسمتُ له ولم أعلّق على ما قاله لي, وبعد فترة وجيزة أكمل الرجلُ وجيرانُه مهمتهم وغادروا المكان, فكان من يتلوهم شاب يمسكُ بيدِ عجوز نحيلة وقصيرة أظنها جدته, وهي ترتدي ثوباً أسوداً سميكاً وبيدها الأخرى تتكىء على عكازٍ مقشّرٍ ومشقق , كانت المسكينة بالكاد تستطيع الوقوف بسبب كهولتها وربما مرضها, وضعَ يديها مؤقتاً على حافتي ذلك الصندوق ثم ركض باتجاه سيارته القريبة منا, فتح صندوقها ثم أخرجَ منه حجراً مكعباً حمله بثلاثية يديه وبطنه, اقترب من جدته ووضع الحجر قرب قدميها ليساعدها بعد ذلك على اعتلاء صهوته, أدركتُ حينها أن قِصَرها يمنعها من الوصول الى الكاميرا المثبتة بعيداً فوق رأسها, ولولا ما فعلهُ حفيدُها لما تمكنت من إنجاز غايتها, وبعد نزولها قمتُ بممازحة الشاب بسؤاله عن هذه الطريقة المبتكرة وعن مصدر هذا الحجر ومصيره, لم تأبه جدته لسؤالي وقد أدركتُ بذلك ضعف سَمعها الشديد.
الشاب: إنني أرافق جدتي في كلّ شهرٍ مرة واحدة إلى هذا المكان بعد وفاة جدّي, وهذا الحجر الذي يرافقنا منذ سنوات عديدة قد أخذته من إحدى المزارع القريبة من بيت والدي, وحتى لا أنساه أو أبحث عن غيره أصبحتُ أبقيه رفيقاً دائماً لي في سيارتي أينما ذهبت, هل تصدق أن جدتي كثيراً ما تسألني عن أخبار هذا الحجر الذي تعتبره أصغَرَ أحفادها, أريد أن أطلب منك طلباً يا سيدي, سآخذ جدتي المتعبة الى سيارتي فهل تستطيع مساعدتنا بحمل الحجر الى الصندوق الذي تركته مفتوحاً؟, إنه حجر نظيف وأنا أغسله بشكل دوري لذلك لن تتسخ ثيابك أبداً, ولك مني ومن جدتي جزيل الشكر والعرفان.
ابتسمتُ له ولها بعد هذا الطلب الغريب والعجيب, وقمتُ بحمل “حفيدها” الرضيع النائم دون أيّ تردد أو استعلاء, ودّعتهم ملوّحاً بيدي وعدتُ إلى مكاني الذي لا يوجد فيه الآن سوى فتاة واحدة تقف أمامي, سادَ الصمتُ وتمسمرت وتجمّدت تلك الفتاة التي لا تفعلُ شيئاً, أزاحت وجهَها ثم استدارت نحوي.
الفتاة: أرجو المعذرة ولكنها المرة الأولى التي سأستعمل فيها بطاقتي الجديدة, لا أعرف ماذا أفعل وأخشى أن أرتكب خطأً فتنسحبُ مني ولا تعود, إنني أشعر بالارتباك والتشوّش, هل تستطيع القيام بذلك لي بدلاً عنّي؟ تفضل هذه بطاقتي.
أمسكتُ ببطاقتها ووضعتها في المكان المناسب وأنا أشرح لها ما ينبغي عليها القيام به في المرّات القادمة, كنت مضطراً لسؤالها عن “رقمها السرّي” وكمية النقود التي ترغبُ بسحبها, وفي نهاية المطاف طلبتُ منها الضغط على كلمة “موافق” ثم أخذِ  بطاقتها ونقودها, صمتت قليلاً ثم خاطبتني بوجهٍ جديدٍ وبنوع من الجديّة والحزم.
الفتاة: قبل أن أقوم بذلك أرجو منك أن تقف بعيداً حتى آخذ نقودي وأنا مطمئنة, هذا إجراء احترازيّ من حقّي فعله لأنني لا أعرفك, وأن تساعدني لا يُعني أن أثق بك, وبعد أن آخذ بطاقتي ونقودي أتمنى منك أن تمسح من مخيلتك “رقمي السرّي” وأن لا تخبر به أحداً على الإطلاق.
هالني ما رأيتُ وذُهلتُ مما سمعتُ, ابتعدتُ قليلاً عن سموم كلماتها وقتامة أوهامها, وأخبرتها بأنني نادم على مساعدتها وأن تُرهاتها وتشكيكها هو جزائي على مساعدة أمثالها, وأنها هي من طلبت مساعدتي ومن تلقاء نفسها قد استعطفتني لمدّ يد العون لها, ثم أشحتُ بوجهي عنها مبدياً الكُره والازدراء, أخيراً حان دوري وبقيتُ وحدي فغرستُ بطاقتي بكامل حرّيتي بعد كلّ ما جرى.
الصراف الآلي: لا تستطيع القيام حالياً بأي عمليات مالية…عُذراً… الصراف الآن خارج الخدمة ..!