عبدالقادر علي المعلمي: هل طرأ تغيير على موقف أوروبا من الإبادة في غزة؟ تحليل جيوسياسي لمُعطيات الخطاب الأوروبي

عبدالقادر علي المعلمي: هل طرأ تغيير على موقف أوروبا من الإبادة في غزة؟ تحليل جيوسياسي لمُعطيات الخطاب الأوروبي

عبدالقادر علي المعلمي

الغضب الأوروبي بين الأخلاق والسياسة
في الأشهر الأخيرة، تصاعدت حدة الخطاب الأوروبي تجاه إسرائيل على خلفية مجازر قطاع غزة، لاسيما مع توثيق منظمات دولية لممارسات ترقى إلى الإبادة الجماعية وجرائم الحرب. وقد صدرت عن عواصم أوروبية – كباريس ومدريد وغيرها– تصريحات غير معتادة، تضمنت عبارات كـ”القلق البالغ”،”والاعتراف بدولة الفلسطينية”، وحتى اتهام إسرائيل بانتهاك القانون الدولي. فهل تعني هذه التصريحات تحولًا جذريًا في الموقف الأوروبي  مايدور في قطاع غزة من حرب همجية بربرية ؟ أم أنها مجرد أدوات ضغط في مواجهة الإدارة الأمريكية، خاصة بعد أن فرضت الأخيرة رسومًا جمركية على الصادرات الأوروبية، وتصاعد الخلاف حول أعباء تمويل الناتو؟ هذا المقال يحاول تقديم قراءة تحليلية معمقة في خلفيات الخطاب الأوروبي الجديد، ضمن معادلة المصالح والتحالفات.
أولًا: ازدواجية القيم الأوروبية… من فلسطين إلى أوكرانيا
من الناحية الخطابية، تبدو بعض الدول الأوروبية وكأنها بدأت تعي خطورة استمرار دعمها غير المشروط لإسرائيل، خصوصًا بعد أن أصبحت صور الضحايا والدمار في غزة تملأ شاشات العالم، مما يهدد شرعية الغرب الأخلاقية، ويضعه في خانة التناقض مع ما يدّعيه من دفاع عن حقوق الإنسان.
لكن الواقع يؤكد أن هذه التصريحات لم تترافق مع أي إجراءات ملموسة: لا عقوبات على إسرائيل، ولا تعليق لاتفاقيات تجارية، ولا حتى وقف تصدير الأسلحة. وهذا يعكس بوضوح سياسة المعايير المزدوجة، حيث تتعامل أوروبا مع القضية الفلسطينية باعتبارها “هامشية”، مقارنة بالحالة الأوكرانية مثلًا، التي حظيت بدعم سياسي وعسكري غير مسبوق.
بل يمكن القول إن الموقف الأوروبي لم يخرج حتى الآن عن نطاق “الاحتواء الخطابي”، حفاظًا على علاقاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، وضمانًا لعلاقاتها الاقتصادية والعسكرية مع إسرائيل.
ثانيًا: حسابات القوة، أوروبا بين المطرقة الأمريكية وسندان الصورة الدولية
ينبغي ألا نُغفل أن التوترات بين أوروبا والولايات المتحدة، خصوصًا في ظل إدارة الأمريكية الجديدة، قد فتحت شهية بعض الدول الأوروبية لممارسة نوع من الاستقلال الخطابي، ليس فقط في ملف غزة، بل في قضايا أخرى كالصين، أوكرانيا، وصفقات الطاقة.
فقد عبّرت عدة دول أوروبية عن امتعاضها من استمرار واشنطن في فرض رسوم جمركية على الصادرات الأوروبية ، إضافة إلى ضغوطها المستمرة لزيادة الإنفاق الدفاعي في حلف الناتو. في هذا السياق، لا يُستبعد أن تكون التصريحات الأوروبية المتشددة تجاه إسرائيل نوعًا من “الرسائل الجيوسياسية”، التي تستخدم غزة كورقة ضغط لتحسين شروط أوروبا في مفاوضاتها مع الولايات المتحدة.
وبعبارة أخرى، فإن استغلال الملف الفلسطيني – من دون أن يكون هدفه وقف القتل أو دعم العدالة – يمثل توظيفًا سياسيًا باردًا لمعاناة شعب يباد بأكمله، لصالح توازنات القوة بين الحلفاء الغربيين.
ثالثًا: حدود التحول الأوروبي، الصوت أعلى، والفعل غائب
رغم ارتفاع النبرة الأوروبية، إلا أن المواقف الرسمية لم تترجم إلى سياسات فعالة. الاتحاد الأوروبي لا يزال يحتفظ باتفاقية الشراكة مع إسرائيل، ولم يُصدر قرارًا جماعيًا ملزمًا يدين العمليات العسكرية الأخيرة باعتبارها جرائم حرب. والأسوأ، أن بعض الدول ما زالت تدافع عن “حق إسرائيل في الدفاع عن النفس” دون اعتبار لحجم الكارثة الإنسانية.
هذا يعكس حقيقة أن أوروبا، وإن أظهرت تململًا إعلاميًا، إلا أنها لم تصل إلى حد الخروج عن الإجماع الغربي المساند لإسرائيل. كما أن الرأي العام الأوروبي – رغم اتساعه في دعم الفلسطينيين – لم يستطع حتى الآن فرض تغيير جذري على سياسات حكوماته، باستثناء بعض الأصوات البرلمانية المعزولة أو الحراك الطلابي المتصاعد.
ختاما: خطاب بلا عمق،  والدم الفلسطيني أداة تفاوض
إن التصريحات الأوروبية الأخيرة لا تعبر عن صحوة ضمير سياسي، بقدر ما تكشف عن توتر في التحالف الغربي. أوروبا اليوم تعاني من أزمة هوية استراتيجية: فهي من جهة مرتبطة عضوياً بالولايات المتحدة عسكريًا واقتصاديًا، ومن جهة أخرى تحاول الظهور بمظهر القارة المدافعة عن القيم الليبرالية وحقوق الإنسان. وفي هذا الصراع بين المصلحة والقيم، تصبح غزة – مجددًا – ضحية لتلاعب الخطاب وغياب الفعل.
ما لم تتحول هذه التصريحات إلى قرارات سياسية حقيقية – تشمل وقف الدعم العسكري، مراجعة الاتفاقيات، ودعم تحقيقات دولية – فإنها ستظل مجرد زوبعة في وجه البيت الأبيض، لا تختلف كثيرًا عن زوبعة سابقة أثارتها أوروبا عقب حرب العراق، ثم تلاشت تحت ضغط الحسابات الأطلسية.

كاتب ومحلل سياسي صومالي