د. كمال ميرزا: “الشراكة” والاحتلال الأمريكي في غزة!

د. كمال ميرزا: “الشراكة” والاحتلال الأمريكي في غزة!

د. كمال ميرزا

سمجة جداً، ومحروقة جداً، تمثيلية الخلاف الغربيّ مع الكيان الصهيونيّ، تمهيداً للاحتلال الأمريكيّ لغزّة وتسليمها لمرتزقة الشركات!

بالنسبة لـ “نتنياهو” وعصابة حربه، فهو منذ اليوم الأول كلب مسعور في مهمّة، يخوض حرباً بالوكالة عن أمريكا التي دعمته وسلّحته ومنحته الغطاء والشرعيّة والدعاية.. وها قد أنجز مهمّته، أو بالأحرى بلغ أقصى ما يستطيع في تنفيذ مهمته، وما عاد في جعبته المزيد لتقديمه، وآن الأوان للتخلّص منه والانتقال إلى مرحلة تالية.

الخلاف في حالة “الكلاب في مهمة” على غرار “نتنياهو”، هل سيسمحون له بتقاعد هادئ بعد أن يتنحّى ويبتعد عن الأضواء؟ أم أنّ أحدهم سيطلق عليه رصاصة نهاية الخدمة؟

يبدو أنّ “نتنياهو” يعاند ويكابر ويتشبّث بموقعه ودوره الوظيفيّ.. لذا يبدو الخيار الثاني أكثر احتمالاً.

المرتزقة الأمريكان سيحتلّون غزّة، يساعدهم في ذلك مرتزقة عرب، وبعض الجيوش العربيّة التي لم تعد جيوشاً منذ وقت طويل، وأصبحت بمثابة شركات أمن وحماية وخدمات لوجستيّة تؤجّر أراضيها وقواعدها، وتبيع خدماتها لمن يدفع ويودع الأتعاب في حسابات قادتها السريّة في الخارج.

غزّة سيسيطر عليها ويحتلّها مرتزقة الشركات، وبعد هنيهة مَن سينهب غاز غزّة هي أيضاً الشركات..

ومَن سيحتكر مقدّراتها وبناها التحتيّة والفرص الاقتصاديّة التي توفّرها كمجتمع إنسانيّ هي الشركات (ماء، كهرباء، اتصالات، وقود)..

ومَن سيبني ويُشغّل ويستثمر ميناءها ومطارها (وقناتها متى تمّ المضيّ فيها قُدُما) هي الشركات..

ومَن سيدرّب ويؤهّل ويُشرف على أجهزتها الأمنيّة وإدارتها العامّة ويُزوّدها هي الشركات..

غزّة في التصوّر الأمريكيّ يُراد لها أن تصبح نموذجاً قياسيّاً لدولة الشركات، أو “الدولة الشركة”، وهو الشكل الجديد للدولة الذي عمل النظام الرأسماليّ العالميّ بشكل حثيث على إرسائه خلال العقود الثلاثة الماضيّة، وذلك كبديل للشكل التقليديّ للدولة، أو ما تُسمى “الدولة القوميّة” أو “الويستفاليّة”.

هذه العملية “النماذجيّة” المتواصلة يمكن أن نطلق عليها اسم “الشرككة” (أو الشركنة تخفّفاً) إذا جاز التعبير، من “شركة” على وزن “فعللة”.

ولقد سبق للاحتلال الأمريكيّ وأن جرّب هذا النموذج أو “الموديل” من الاحتلال واختبره لأوّل مرّة في العراق، وصقله وطوّره خلال ما يُسمّى “الربيع العربيّ”، وطبّقه بنجاح في سوريا (بشكل أساسيّ استبدال بريمر الأجنبيّ ببريمر محليّ)، وهو يعمل الآن على تطبيقه بنسخته المكتملة أو الناجزة في غزّة (ربما تمهيداً لتطبيقه فيما بعد في مصر والجزائر وغيرهما).

وعندما تقول فرنسا أو بريطانيا أو غيرها من الدول أنّها ستعترف بـ “الدولة الفلسطينيّة”، ففعليّاً هذه هي الدولة التي ستعترف بها: دولة الشركات التي يديرها مجلس إدارة مُعيّن، ومدير تنفيذيّ مُعيّن، ومدراء تكنوقراطيّون مُعيّنون (حتى لو تمّ انتخابهم شكليّاً من خلال انتخابات قوامها الطائفيّة والمحاصصة)، ومرتزقة يحمون رواتبهم وامتيازاتهم وهرم السلطة ولا يحمون الوطن!

وفق هذا المنظور، فإنّ أميركا والغرب وأذنابهم الإقليميّين هم من يستخدمون فعليّاً سلاح التجويع والتشريد والمعاناة والابتزاز باسم الإغاثة وإعادة الإعمار بحقّ أبناء غزّة.. وليس الكيان “الوظيفيّ” الصهيونيّ بحدّ ذاته.

ووفق هذا المنظور فإنّ “دونالد ترامب” ابن الشركات وصاحب الشركات وصنيعة الشركات هو أيضاً “شخص” في مهمّة، ومهمّته من موقعه هو دفع ذلك التحوّل العولميّ، رسميّاً، وعلى عينك يا تاجر، نحو عصر الشركات (المُقترن بالتحكّم والسيطرة الفائقين بسيف الرقمنة والذكاء الاصطناعيّ).

هذا ما يقصده “ترامب” عندما يقول أنّه يريد أن يمنح غزّة الحريّة؛ حريّة “دعه يعمل دعه يمرّ”، وليس حريّة الثورة الفرنسية و”الماجنا كارتا” وإعلان الاستقلال الأمريكيّ..

وهذا ما يقصده عندما يقول أنّه يريد أن يجعل من غزّة “ريفيرا” جديدة، أو “فردوس أرضيّ” جديد، أو “صهيون” أخرى “يحجّ” إليها اللاهثون وراء “الحلم الأمريكيّ” الذي ما عاد يقترن عضويّاً بالتراب الأمريكيّ منذ وقت طويل!

هذا ما يُراد لغزّة، وهذا ما يُراد للمنطقة عموماً، وهذا ما يُراد للدولة بما هي دولة.. وهذا أحد مكامن الصراع بين الغرب صاحب مشروع “النظام العالميّ الجديد”، وبين الدول التي ما تزال تمتلك مشروعاً قوميّاً، والاقتصاد والرأسماليّة والشركات بالنسبة لها ما تزال تحت الدولة وليس فوقها، مثل روسيا والصين ومجمل دول “البريكس”.

وبالنسبة لأولئك الذين يصرّون على أنّ اليهود وما تُسمّى “إسرائيل” يحكمون العالم ويتحكّمون في قراره، يتناسون أنّ “الصهيونيّة” في جوهرها وأصل نشأتها هي حركة علمانيّة إلحاديّة (خرجت من بين اليهود)، وأنّ “الكيان الصهيونيّ” شأنه شأن منظومة الدول العربيّة القُطْريّة هو صنيعة الاستعمار، وموجود لخدمة المشروع الإمبرياليّ الرأسماليّ الغربيّ.

بكلمات أخرى، اليهوديّ والمسلم والعربيّ والأعجمي وجميع البشر أو الشعوب أو العوام أو الدهماء أو الحشود الذين يمثّلون النقيض الموضوعيّ والعمليّ لإنسان “نيتشه” الأعلى أو “السوبرمان” (والنتشويّة هي روح الرأسماليّة الغربيّة والدارونيّة الاجتماعيّة عقلها).. جميع هؤلاء هم مجرد “مادة استعماليّة” يتم توظيفها، وتعديل أدوارها الوظيفيّة (وعند اللزوم إفناؤها وإعادة تدويرها)، بما يخدم مصالح النظام الرأسماليّ العالميّ عبر مراحله وأطواره وتقلّباته المختلفة.

الذين يقرأون مثل هذا الكلام، إمّا يعتبرونه ضرباً من الفلسفة الزائدة والتنطّع والتفزلك، ويستخفّون به، وينبذونه هو وكاتبه وراء ظهورهم.. وإما يقتنعون به ويصدقونه لدرجة تجعلهم يسقطون في اليأس والقنوط والإحساس باللاجدوى وكأنّ هذا الكلام أمراً مقضيّاً، أو قدراً لا مفرّ منه.

نقطة ضعف مثل هذا النمط الشيطانيّ من التفكير، ومثل هذه المخطّطات، أنّ أصحابها قد أعماهم غرورهم وانتشاؤهم بذواتهم، وأصبحوا يتعاملون وكأنّهم أرباب يمتلكون مشيئة مطلقة لا تُساءَل ولا يأتيها الباطل من بين يديها ولا خلفها، وأنّهم بزخرف حضارتهم قد ملكوا الأرض وأصبحوا قادرين عليها (حيث لا ميتافيزيقيا ولا غيب ولا يوم آخر ولا حساب).. والدرس الذي علّمنا إياه التاريخ وسننه أنّ ما من حضارة إنسانيّة بلغت هذه النقطة إلّا وكانت تلك اللحظات الأخيرة قبل انهيارها!
وبموازاة ذلك، فإنّ أصحاب هذه المخطّطات باتوا ينظرون للبشر، وللإنسان بما هو إنسان، باحتقار واستخفاف واستتفاه (أو استظراط باللهجة العاميّة).. وأيضاً الدرس التاريخيّ والحكمة الشعبيّة المُجرّبة والمُغربلة عبر الزمن يعلماننا أنّ “الحجر إلّلي ما بعجبك بفجّك”، ولعلّ أهل غزّة، ومخيمات الضفّة، وإخوان الصدق اليمن، وجبهات إسنادهم.. هم خير شاهد عمليّ على ذلك!
بالنسبة لبقية البشر المنتشين بغبائهم باسم العلم والحداثة، والمنغمسين في نمط حياتهم الاستهلاكيّ ولو على طريقة القط الذي يلحس المبرد، والمكتفين بوجودهم الافتراضيّ عبر الفضاء التواصليّ كبديل عن تعب وكدّ وإرهاق والتزامات ومسؤوليات واستحقاقات العالم الحقيقيّ، والذين يعيشون في اللحظة متحلّلين من عبّ التاريخ والمستقبل.. لو علم هؤلاء أنّ خلاصهم يكمن في غزّة ومقاومتها ومخيمات الضفة وجنوب لبنان واليمن.. لعضوا عليها بأسنانهم وتشبثوا بها بأظافرهم!
ولكن أنّى للبشر مثل هذا الوعي في عالم “الصناعات الثقافيّة” و”الإعلام المُموّل”، وعالم “هوليوود” و”نتفلكس”، وعالم “السوشال ميديا” و”المؤثّرين”، وعالم الـ (NGOs)، وعالم “محرّكات البحث” و”الذكاء الاصطناعيّ”، وعالم “الإبراهيميّة، وعالم “تطوير المناهج” ورقمنتها و”التعلّم عن بعد” حيث الضبط الكامل للمحتوى وتحييد العامل البشري “الشاذ” و”الهدّام” الذي يمثّله المعلمون “ورثة الأنبياء”!
أو بمنطق الشركات.. “شركنة” الثقافة والأدب والمجتمع والدين والتعليم والعلم، وإعادة تعريفها و”برمجتها” بما يخدم عالم الشركات الجميل ومالكي أصول وأسهم وسندات هذه الشركات!
القاعدة البسيطة في التحليل هنا: ابحث عن المستفيد، وابحث عن الذي سيكيّش كلّ هذا الدم والقتل والدمار والمعاناة في نهاية المطاف.. وستعرف من هو المجرم الحقيقيّ/ المجرمون الحقيقيّون (بتراتبيتهم وطبقاتهم).. أو بلغة الدين: “حزب الشيطان” و”ملّة الكفر” الواحدة حتى لو كان من بينهم ظاهريّاً عرب ومسلمون!
كاتب اردني