د. فاطمة الديبي: شخص غير منتبه

د. فاطمة الديبي: شخص غير منتبه

 

 

د. فاطمة الديبي
كانت الشمس تتهادى شبأشعتها الذهبية عبر ستائر منزل “عهد”، ترسم خطوطاً من نور على أرضية الصالون الصامتة. الهدوء الذي كان يلف أركان البيت، أصبح الآن محملاً بتوتر خفي يسبق عاصفة الامتحانات النهائية. الكتب المكدسة على طاولة الدراسة في غرفة “غافل” كانت تشبه جبالاً من الأحلام المؤجلة، تنتظر أن تُروى، بينما ردهات البيت كانت تتشرب أصداءً خافتة لاهتزازات الهاتف قادمة من عمق غرفته، إيقاعاً متواصلاً يكسر حاجز الصمت ويُعلن عن عالم آخر، عالم افتراضي يجذب الابن بعيداً عن سطور الواقع. كانت عهد تتأمل هذه المشاهد بعينين تقرآن ما وراء الجدران ترى كيف أن كل دقيقة تمر، هي خسارة لا تُعوّض في سباق الزمن نحو المستقبل. كان صوتها الحنون، الذي اعتاد أن يملأ البيت بالدفء، يتحول أحياناً إلى نبرة حادة تُخفي وراءها قلقاً عميقاً، قلقاً على حلم كانت ترسمه لابنها منذ سنوات طويلة، حلم مهدد الآن بضجيج شاشة صغيرة وبقايا فناجين قهوة باردة.
جلست عهد تتأمل غافل وهو يتصفح هاتفه بتراخٍ، بينما أكوام من الأوراق الخاصة بالدروس مبعثرة حوله. تنهدت بعمق، وكأنها تحمل على عاتقها تاريخاً من الكفاح. “هل تعلم يا غافل، أن البكالوريا في زماننا كانت قصة أخرى تماماً؟” بدأت عهد بصوت يحمل نبرة حنين، “لم تكن هناك هواتف تسرق الأوقات، ولا دروس خصوصية تأتي إلينا في البيت”.
“أتذكر يوم امتحان البكالوريا الخاص بي وكأنه حدث بالأمس”، تابعت عهد، وعيناها تلمعان بذكرى الماضي : “لم يكن لدينا رفاهية الأساتذة الذين يأتون إلى البيت كل يوم، يملأون فراغات التقصير ويُعيدون شرح ما فات، كنا نعتمد على أنفسنا بالكامل، وعلى ما نتحصله في المدرسة، ومن كان فاشلا في الدراسة معنا كان يذهب إلى الخصوصي. الكتاب كان صديقنا الوحيد، نُقلّب صفحاته حتى تتآكل من كثرة المراجعة، كنا نسهر الليالي الطوال، أحياناً تحت ضوء خافت، لا نملك إلا إصرارنا وعزيمتنا”.
توقفت عهد للحظة، ابتسامة خافتة ترتسم على شفتيها : “أتذكر أنا وصديقاتي، كنا نلتقي كل يوم بعد المدرسة، أحياناً نذهب إلى الحديقة المجاورة لثانوية الحي الصناعي، نفترش الأرض تحت ظلال الأشجار ونغرق في المذاكرة. نتبادل الشرح ونحل التمارين، وكل واحدة منا تشد أزر الأخرى. وبعد الظهر، كنا نذهب إلى مكان زراعي بجوار حينا، كنا نسميه (الحْصِيدَةْ)، كان مكاناً ساحراً وقت الربيع، تكتسي الأرض فيه بالخضرة اليانعة. كان يتميز بالهواء النقي، وكأننا لسنا بالمدينة، وكل من كان يذهب إليه كان يشعر وكأنه في البادية. حتى النساء كن يأخذن أولادهن للعب والاستمتاع بمنظره الجميل وزهوره، خاصة زهرة (حْلَّالَة) المنتشرة فيه بكثرة.. مكان بسيط لكنه كان يحسسنا بالأمن والأمان ويمنحنا الجو الدافئ، صوت القطار وهو يمر بجواره كان يضفي لحناً غريباً على ساعات الدراسة الطويلة وكأنه يشاركنا همومنا وأحلامنا.. كانت “الحصيدة” تجمعنا كلنا، فقد كانت نسوة الحي كل واحدة تحمل ما لذّ وطاب من الخيرات؛ سلال مملوءة بشتى أنواع الحلويات المنزلية : كعك، “غْريبة” معطرة بماء الزهر، و”فقّاص” باللوز والزبيب، والشاي الساخن تفوح منه رائحة النعناع الزكية تملأ المكان، كنا نحس بأمان وهم معنا.
“وفي الليل”، استطردت عهد، وابتسامتها اتسعت، وعلت نبرة صوتها قليلاً، وكأنها تعيش تلك اللحظات من جديد : “كان المشهد يتغير تماماً، كنا نرى الذكور والإناث من الحي يتجمعون، بعضهم يجلس على الأرصفة، وبعضهم الآخر يقف تحت إنارة شارع محمد الخامس الخافتة، أو على حشائش الحديقة المجاورة للعمالة. كانت هناك مجموعات تتبادل الشرح، كلّ منا يشرح لصاحبه ما فهمه، ويساعد من تعثر في نقطة ما. كانت روح التعاون هي السائدة، وكأننا إخوة نتشارك نفس المصير. لم يكن هناك ما يشتت انتباهنا سوى صوت زقزقة العصافير، أو حفيف أوراق الأشجار. كانت تلك الأيام، يا غافل، أياماً لا تُنسى، أياماً صنعت فينا العزيمة والإصرار”.
نظرت عهد إلى غافل الذي كان لا يزال ينقر على هاتفه، ثم إلى أكوام أوراق الدروس الخصوصية التي دفع فيها والداه الغالي والنفيس : “الآن، كل شيء مختلف”، قالت بنبرة لا تخلو من الألم : “يومك يبدأ بأستاذة الرياضيات صباحاً، ثم حصة الفيزياء بعد الظهر، وكل هذا هنا في البيت لتركز. كل درس، كل مادة، لها أستاذ خاص يأتي ليشرحها لك. ومع ذلك، أراك غارقاً في هاتفك، وكأن الأمر لا يعنيك!”.
“أرى هذه الأوراق تتكدس، وهؤلاء الأساتذة يبذلون جهداً، وأنت لا تزال تصر على قضاء المساء في المقهى المعتاد مع أصدقائك، بحجة المراجعة!”.. أضافت عهد، وارتفعت نبرة صوتها قليلًا : “المقهى يا بني، هو مكان للثرثرة وتبادل النكات، لا للتحصيل العلمي الجاد، إنها مضيعة للوقت وهدر للمال، بعد كل هذه الدروس التي تتلقاها يوميّاً. كيف يمكن لك أن تركز على مستقبلك، بينما عقلك وقلبك معلقان بهذا العالم الافتراضي ورُفقة المقهى؟”،
“أعلم أن الزمن قد تغير، وأن الأدوات أصبحت مختلفة”.. اختتمت عهد حديثها، محاولة ضبط انفعالها : “لكن جوهر النجاح لم يتغير، هو يتطلب التركيز، الجهد، والتضحية. هذه الهواتف، وهذه المقاهي، هي مجرد مُلهيات تستنزف طاقتك وأموالك. استغل كل هذه الفرص المتاحة لك، كل هذه الدروس الخصوصية التي لم تكن موجودة في زماننا، ودع عنك كل ما يشتت انتباهك. المستقبل ينتظرك، وهو يستحق منك كل هذا الجهد، وكل هذا التركيز. فهل يرتفع صوت “الحْصِيدَة” في ذاكرتك، أم سيظل صوت الشاشة هو الأعلى في عالمك يا غافل؟”.
كاتبة مغربية