نادية حرحش: الصهيونية والثقافة الغربية: تحليل عبد الوهاب المسيري لمخطط السيطرة

نادية حرحش: الصهيونية والثقافة الغربية: تحليل عبد الوهاب المسيري لمخطط السيطرة

 

 

نادية حرحش

“إن الفكر الصهيوني هو فكر غربي حتى النخاع، وأن الرؤية الصهيونية هي إحدى إفرازات الرؤية الغربية الحديثة الامبريالية. ويتبدى هذا في “الاعتذاريّات” التي يقدّمها الصهاينة: وهي الحجج التي يسوّقها المرء ليرفع اللوم عن نفسه ،وليبرر ما يقوم به من أفعال عدوانيّة، وليضفي شيئاً من المعنى على فعلته. فهي رغم وجود بعض الأبعاد اليهودية الخاصة، هي اعتذاريّات غربيّة حتى النخاع. تستند الاعتذاريات عادة إلى رؤية للذات (الفاعلة) ورؤية للآخر (المفعول به)، وتتفرع عنها نظريّة للحقوق: حقوق الفاعل وحقوق المفعول به.”
-عبد الوهاب المسيري

في هذه اللحظة المفصلية من التاريخ العربي، وبعد أكثر من قرن على أوّل عمليّة تفكيك جغرافيّ ـ سايكس وبيكو ـ نشهد اليوم تفكيكاً من نوع آخر: لا يُرسم هذه المرة على الخرائط، بل يُمارَس ويُطبّق على الوعي والهويّة والذاكرة. تقسيم لا يعيد فقط رسم حدود الأرض، بل يعيد تشكيل صورة العربي عن نفسه ومكانه في العالم. ويتولّى مشروع إعادة التشكيل هذا، قادة الهيمنة المعاصرة، وعلى رأسهم ترامب، بينما تُقابله أنظمة خانعة تتلقّاه كأنّه قدر محتوم، غير مدركة أنّ ما يُمحى لا يقتصر على الجغرافيا، بل يشمل الإنسان ذاته.
ما يحدث اليوم هو إعادة صياغة للعقل العربي نفسه، وإخضاعه لإرادة معرفية غربية تصوغ معايير “الحضارة” و”الشرعية” وفق منطقها الخاص، في معادلة لا تترك لنا سوى دور التّلقي السلبي والتكيّف القسري. ما نعيشه ليس أزمة سياسيّة متكرّرة، ولكن لحظة انهيار بنيوي يُنذر بزوال ما تبقّى من ملامح الشخصية الحضاريّة العربيّة. لقد تم التمهيد لهذا الانهيار عبر قرن من التجهيل المنظّم، حيث صيغت المناهج والإعلام ومؤسسات المعرفة لتُنتج جيلاً يرى نفسه بعين الآخر، ويقيس قيمته بمقاييس الإمبرياليّة الإحلاليّة، حتى اقتنع أنه لا يصلح إلا للتابعية، منزوع الإرادة، مقطوع الجذور.
وفي مواجهة هذا الانهيار، تبرز الحاجة الملحّة إلى مراجعات فكريّة جذريّة؛ لا تنطلق من مركزيّة غربيّة جديدة، ولا تكتفي بردود الفعل العاطفيّة، بل تستند إلى عقل نقدي يتجاوز السرديات الرسمية والتعبويّة. من بين من قدّموا هذه الأدوات مبكراً، يأتي المفكر المصري عبد الوهاب المسيري (١٩٣٨-٢٠٠٨)، لا كمؤرخ تقليدي، بل كمهندس تفكيك معرفي للحداثة الإمبريالية وتجلّياتها، وعلى رأسها الصّهيونيّة. كتابه “الصهيونية والحضارة الغربية “ليس مجرّد تأريخ لنشأة إسرائيل، بل تشريح بنيوي للمنظومة التي أنتجتها، ولعقلها الوظيفي، ولسياقها الحضاري الأوسع الذي يمتد من الحملات الصليبية، إلى النازية، إلى الحاضر.
يفكّك المسيري الطرح القائل أنّ الصهيونيّة امتداد للروح اليهوديّة، ويُظهر أنها، في جوهرها، تعبير عن البنية الاستعمارية الغربية الحديثة. فالصهيونية لا تُعبّر عن التوراة بقدر ما تُجسّد الفلسفة النيتشويّة والدّاروينيّة الاجتماعيّة، حيث تُمجّد القوة، ويُحتقر فيها الضعيف، وتُختزل قيمة الإنسان في مدى نفعه وإنتاجيته. لا تتنفس الصهيونية من المعبد، بل من السوق؛ ولا تستمد شرعيتها من العقيدة، بل من الوظيفة. تستعير مفردات الليبرالية والاشتراكية والدين، لكنها تؤمن بالشعب العضوي، وبالوجود القومي بوصفه قدَراً بيولوجياَ، لا خياراً حضارياً. وهكذا، يتحوّل اليهودي، في التصوّر الصهيوني، من ضحية إلى مادّة أولية، من شخص إلى وظيفة نفعية تُنقَل وتُحوَّل وتُستخدَم.
لا يكتفي المسيري بالمقارنات العامّة بين الصهيونية والفلسفات الغربية الحديثة فحسب، بل يعمّق تحليله ليكشف عن محاولة بعض المفكرين الصهاينة احتواء الفلسفة النيتشوية داخل التصور الديني اليهودي نفسه. ففي نقده للفيلسوف الصهيوني آحاد هعام ) ١٨٥٦-١٩٢٧)، يُظهر كيف سعى الأخير إلى “تهويد” نيتشه، عبر التأكيد على أن الجزء العام من فلسفته – تمجيد القوة، وإرادة السيادة، ومركزية “السوبرمان” – متجذر أصلاً في التقاليد التلمودية، ولا حاجة لاستيراده من الخارج.
أشار أحاد هعام إلى مفهوم “التساديك” (الرجل التقي) في “المدراش”، والذي يرى أن “العالم خُلق من أجله”، لا من أجل الجماهير، وأنه ليس مدعواً للخضوع للجموع أو السعي إلى إسعاد الأغلبية، بل إلى تحقيق قدره الخاص بوصفه مركزاً كونياً. وبنفس الروح، كتب عند رثائه لهرتزل بأنه كان “المسيح المنتظر”، مشيراً إلى البعد الخلاصي والإعجازي للمشروع الصهيوني كما تجلّى في شخصيته.
هكذا تتكشّف بنية فلسفية مضمَرة خلف المشروع الصهيوني، حيث يُختزل الإنسان إلى كيان وظيفي، ويُعاد تأويل اللاهوت عبر عدسة القوة والسيادة. وبهذا، تصبح النيتشويّة، كما يلمّح المسيري، ليست مجرد تأثير خارجي، بل انعكاساً لصورة الذات كما تراها الصهيونية في مرآة التاريخ الإمبريالي الغربي.
“جيتو وارسو”، الذي خصص له النازيون حيزاً مستقلاً لليهود، لم يكن سوى مشروع إبادة بطيء، يُمنح فيه السكان الحكم الذاتي: محاكم، مدارس ، صحافة، شرطة داخلية، لكن بدون سيادة، ومعزول عن محيطة، مستنزف اقتصادياً، مهيأ للموت الجماعي ومن هذا النموذج، يشتق المسيري مقارنته الجريئة:. الضفة الغربية هي جيتو وارسو الجديد، ولكن بأدوات قانونية معاصرة.  يُسمح لفلسطينيون بالبقاء طالما أنهم “نافعون”: موظفو سلطة، شرطة تنسيق، أو مكوّن ديمغرافي يمكن ضبطه. أما السيادة الفعلية، فهي في يد الاحتلال، الذي يملك مفاتيح كل شيء.
أخطر ما يفجّره المسيري هو مفهوم “الحَوْسَلة” ـ أي تحويل الإنسان إلى وسيلة، لا غاية. اليهود، في فكر نوردو وهرتزل، فائض سكّاني مزعج في أوروبا يمكن تصديره كمورد وظيفي. والعرب، في التصور الصهيوني، هم “الآخر غير النافع” الذي يمكن ترحيله أو عزله أو تسخيره. من يُستخدم يُبقى، ومن لا يُستخدم يُباد أو يُنسى. والسلطة الفلسطينية، كما يراها، ليست سوى دويلة وظيفيّة تدير الجيتو الفلسطيني نيابة عن القوة الحقيقية.
ويتعمّق التشبيه حين يربط المسيري بين المشروع الصهيوني وحروب الفرنجة (الصليبيين). ليس فقط في البنية والموقع الرمزي، بل في اعترافات الزعماء أنفسهم: أفنيري، ديان، رابين — جميعهم شبّهوا إسرائيل بممالك الفرنجة التي لم تصمد. مشروع استيطاني غربي، غُرِس في تربة معادية، يحتاج دائماً إلى دم جديد، ولا يملك أدوات التفاهم أو التكيّف.
ومن حروب الفرنجة (الصليبيين)، ينطلق المسيري لتفكيك مفهوم “الآخر” في الوعي الغربي: الآخر هو المسلم أولاً، ثم اليهودي، ثم كل من لا يشبه الإنسان الأبيض. في النازية، توسّع هذا المفهوم حتى التهم اليهود؛ وفي الصهيونية، أعيد إنتاجه: العربي هو الآخر — “الغوي”، “الطفيلي”، “العائق”، “العبء”. الآخر لا يُلغى، بل يُعاد ترميزه، ليُعزل أو يُحرَق أو يُسخَّر، لا ليُعاشره الغرب أو يعترف بإنسانيته.
أما الإبادة، فهي ليست انحرافاً استثنائياً في تاريخ الغرب، بل واحدة من آليات انتاجه التاريخي. إبادة الهنود الحمر، إبادة سكان الكونغو والجزائر، الحرب في فيتنام، الأنظمة الوكيلة التي مارست القتل بالنيابة– كلها تعبيرات عن حداثة تعتبر الإنسان مجرّد مادة؛ تُستثمر وتُستهلك ثم تُرمى.وهتلر، الذي عبّر عن إعجابه بالنموذج الأمريكي لإبادة الهنود الأصليين، لم يكن شذوذاً عن هذه المنظومة، بل أحد أبناء هذا الإرث، فقط ارتكب فعلته داخل أوروبا، لا خارجها.
الصهيونيّة، كما يصفها المسيري، لم تُخرج اليهود من الجيتو، بل حوّلت الجيتو إلى دولة. لكنها ليست دولة حرّة أو مستقلة، بل إفراز مباشر للتشكيل الاستعماري الغربي، ذات سمتين أساسيتين: الإحلاليّة، والعمالة. هي “جيب صهيوني دخيل”، نشأ كوكيل محلّي للقوة العظمى التي تحميه وتستثمره. لهذا، فإسرائيل ليست استثناءً، بل نموذجاً متأخر ومكشوف من بنية استعمارية عالميّة لفظها التاريخ، ولم يتبقَ منها إلا هذا الجيب المحاصر.
وفي ذروة تحليله، لا يكتفي المسيري بتفكيك الصهيونية كحركة سياسية، بل يُعيد تأطيرها داخل سياق الحداثة الغربية، بوصفها إحدى تجلياتها، وكآخر جيب استيطاني يحاول أن يصمد في عالم لفظ كل أنماط الإحلال والتطهير العرقي. ولهذا، فإن المواجهة معها لا تبدأ من السياسة وحدها، بل من تحرير الوعي، وإعادة تعريف المفاهيم التي صيغ بها العقل العربي على مدار قرن من التبعية الثقافية.
هذا التوصيف ليس مجرّد قراءة نقديّة، بل تصوّر أعلن عنه رموز المشروع الصهيوني في لحظة التأسيس كما يؤكد المسيري. ففي خطاب ألقاه في لندن عام ١٩١٠، صرّح ماكس نوردو بأن “الدولة اليهودية ستكون تحت وصاية بريطانيا العظمى، وأن اليهود سيقفون حراساً على الطريق الذي تحف به المخاطر ويمتد عبر الشرقين الأدنى والأوسط حتى حدود الهند.”أما حاييم وايزمان، فذهب أبعد من ذلك؛ لم يكتفِ بالتصريح بل مارس الوظيفة صراحة، حين ساهم في تأسيس الفيالق اليهودية التي قاتلت إلى جانب الجيش البريطاني ضد العثمانيين في فلسطين. وفي وصفه الرمزي، قال إن الكيان الصهيوني سيكون “بلجيكا آسيوية”، قاعدة أمامية لحماية قناة السويس والمصالح الإمبريالية. حتى هرتزل نفسه لم يُخفِ هذه النية، بل كتب أن “اليهود سيقفون عند خط الدفاع الأول لحماية مصالح الغرب، وسيتولّون الحراسة على أبواب آسيا.”

يختم المسيري كتابه بهذه العبارة:
 “ومع هذا تبقى نقطة تشابه أساسية وهي أن كل الجيوب الاستيطانية التي لم تبِد السكان الأصليين تم القضاء عليها. ويلاحظ أنه مع بداية التسعينيات تمّت تصفية كل الجيوب الاستيطانية في أنحاء العالم، ولم يتبق غير إسرائيل. وهي الحفرية الأخيرة في نظام قُضي وانتهى؛ وهو جيب استيطاني لم ينجح في إبادة السكان الأصليين الذين لا يزالون يقاومون ويستشهدون. فهل هذا يشير إلى مصير الجيب الاستيطاني الإحلالي الأخير في العالم؟ ألا يمكن القول إن الأساطير اليهودية قدّت إلى قناعة خاطئة لدى الصهاينة بحيث يتصوروا أنهم أصحاب حقوق يهودية أزلية وأنهم في واقع الأمر لا ينتمون إلى نمط الاستعمار الاستيطاني الآيل إلى الزوال!؟”
ما كشفه المسيري ليس مجرد وجه آخر للصهيونية، بل وجه آخر لنا إن لم نتحرّر من الوعي الذي صاغته الهزائم. فالمعركة ليست فقط مع كيان محتل، بل مع صورة الذّات كما رسمها الآخر. وربما يكون السؤال الأهم اليوم: هل نملك الجرأة على إعادة تعريف المعركة؟ لا كصراع على الأرض فقط، بل كتحرير للعقل من هندسة التبعية؟

صدر كتاب «الصهيونية والحضارة الغربية» أول مرة سنة ١٩٩٧ عن دار الشروق.