الاتفاق النووي كإعادة تأكيد للسيادة الوطنية

الاتفاق النووي كإعادة تأكيد للسيادة الوطنية

 

 

نجاح محمد علي

في زحام الأزمات العالمية، من أوكرانيا إلى غزة، ومن أسعار النفط إلى سباقات التسلح، يطفو على السطح مجدداً ملفٌ لم يغب، بل ظل يغلي تحت رماد التحفظات والمماطلات: الملف النووي الإيراني.
وبينما تتجه الأنظار إلى العاصمة الإيطالية روما، حيث الجولة الخامسة من المفاوضات غير المباشرة بين إيران والولايات المتحدة بوساطة سلطنة عمان، تتجدد الآمال لدى دعاة العدالة والسيادة، ويتضاعف القلق لدى من لا يرون في الاستقلال الإيراني إلا تهديدًا لهيمنتهم.
تسعى الجمهورية الإسلامية، من خلال هذه المفاوضات، ليس فقط إلى رفع العقوبات أو تحسين شروط التخصيب، بل إلى تثبيت مبدأ: أن السيادة لا تُقايض، وأن التكنولوجيا ليست امتيازًا يحتكره الغرب، بل حق تناله الشعوب بصبرها وعلمها ودماء علمائها.
في هذا السياق، جاءت تصريحات “جيك ساليفان”، مستشار الأمن القومي السابق، لتعكس صورة معقدة داخل الإدارة الأمريكية. ساليفان، الذي يتمتع بخبرة تفاوضية طويلة، أقر بأن إيران “تبدي بكل وضوح رغبة في التوصل إلى اتفاق”، لكنه ربط ذلك بشكل الاتفاق وموقع التخصيب فيه. المفارقة أن ساليفان نفسه حذّر من الإفراط في الشروط، داعياً إلى التوازن، فيما يواصل المفاوض الأمريكي الحالي “ستيف ويتكاف” التلويح بخط أحمر عبثي: “حتى 1% من التخصيب غير مقبول”.
هذا الخطاب يكشف هشاشة الموقف الأمريكي، الذي يراوح بين مرونة تكتيكية وتشدد أيديولوجي مدفوع بضغوط داخلية، وأخرى من كيان الاحتلال، الذي يرى في أي ذرة تخصيب في طهران، نهاية لاحتكاره النووي ولبدعة “التفوق النوعي”.
إيران، من جهتها، لا تفاوض على كرامتها. وكما صرّح وزير خارجيتها “سيد عباس عراقچي”، فإن المواقف الأمريكية الأخيرة تفتقر إلى المنطق، وهي من أسباب تعثر المفاوضات . بل إن طهران، رغم اقتراح موعد جديد، لم تعطِ موافقتها بسرعة بل ظلت تتمنع ، كمن يقول: لن نذهب إلى روما محنيّين بل مرفوعي الهامة.
تستند إيران في دفاعها إلى معاهدة عدم الانتشار (NPT)، التي تكفل الحق غير القابل للنقض في امتلاك التكنولوجيا النووية للأغراض السلمية. وهذا الحق تدعمه أيضاً المادة الرابعة  إذ “تتعهد جميع الأطراف في المعاهدة بتسهيل التبادل الكامل للمعدات والمواد والمعلومات العلمية والتكنولوجية للاستخدامات السلمية للطاقة النووية، ولها الحق في المشاركة في هذا التبادل” .وهذه ليست “وجهة نظر”، بل نص قانوني دولي.
إن رفض إيران استيراد الوقود النووي من طرف ثالث ليس تعنّتًا، بل دفاع عن الاستقلال العلمي والتقني، وهو ما يشكل العمود الفقري لسيادتها الحديثة.
لكنّ واشنطن لا ترى في القانون الدولي إلا حديقة خلفية لمصالحها. فهي تبرر موقفها بـ “أسباب استراتيجية” تراها ضرورية، وهي في جوهرها ستة بنود رئيسة تحرك موقفها المتصلّب:
أولاً، تخشى واشنطن أن يشكل قبول تخصيب إيراني سلمي سابقة خطيرة تدفع دولاً إقليمية أخرى مثل السعودية وتركيا للمطالبة بالحق نفسه، ما قد يطلق سباق تسلح نووي صامت في المنطقة ، وهو مجرد زعم ليس إلا.
ثانيًا، يصرّ صناع القرار الأمريكيون على حماية التفوق العسكري النووي لكيان الاحتلال، الذي يعتبر أي قدرة تخصيب في يد إيران تقليصًا “لوقت الاختراق” اللازم لتطوير سلاح نووي، حتى لو لم تكن هناك نية لذلك، وهي أيضاً مزاعم تكررت منذ أكثر من ثلاثة عقود  .
ثالثًا، ترى واشنطن أن السماح لإيران بالتخصيب يمنحها ورقة ضغط دائمة في ملفات أخرى، خاصة برنامجها الصاروخي وت ما يسمى مددها الإقليمي، وهي ملفات تحاول الولايات المتحدة التحكم بها عبر بوابة النووي بعد ان فشلت في فرضها على المفاوضات النووية الأخيرة .
رابعًا، تستجيب إدارة ترامب(ومن قبلها بايدن) لضغوط داخلية من الكونغرس واللوبيات المعروفة، التي تطالب بإبقاء إيران في زاوية الضغط والحصار، كوسيلة لضمان أمن الكيان وتوازنات المنطقة.
خامسًا، تسعى واشنطن -كما تعتقد – إلى تقليص قدرة إيران على إعادة الانخراط في سوق الطاقة العالمية بقوة، لأن عودة النفط الإيراني تعني اضطراب التوازن في الأسعار والإمدادات، وربما تهديد للنفوذ الخليجي الأمريكي.
سادسًا، تحاول الولايات المتحدة إبقاء زمام التكنولوجيا النووية بيد الغرب، وترى في التقدم الإيراني خطرًا على هذا الاحتكار، الذي يترجم في النهاية إلى تفوق سياسي واقتصادي وعسكري.
هذه البنود، وإن وُصِفت بالاستراتيجية في أوراق مراكز أبحاث لها صلة بتلك اللوبيات مثل معهد واشنطن أو مجلس العلاقات الخارجية، فإنها في ميزان القانون الدولي تُعد انتهاكًا صارخًا لمبدأ المساواة بين الدول في الحقوق، وتبررها لا يسندها سوى منطق القوة، لا منطق العدالة.
وندي شيرمان، المفاوضة الأمريكية السابقة التي ساهمت في ابرام الاتفاق النووي الايراني ، كانت أكثر واقعية حين قالت إن “وقف التخصيب بالكامل أمر مستحيل”، محذّرة من أن الإصرار على هذا الشرط سيقود إلى مأزق دبلوماسي، وربما إلى مواجهة مفتوحة. بل إن مراكز أبحاث أمريكية كـ “CSIS” و”بروكينغز” باتت تحذر من “جنون الشروط”، الذي لا يخدم الأمن بقدر ما يغذّي العداء، ويدفع إيران نحو خيارات غير مرغوبة.
لكن لا بد أن يُقال بصدق: إيران ليست في موقع ضعف. لقد راكمت قدرات نووية متقدمة، وواصلت التخصيب حتى 60%، وأثبتت أنها ليست رهينة العقوبات، بل تصنع منها درعًا للاعتماد على الذات، وتحوّل كل حصار إلى محرّك داخلي للابتكار. ومَن راقب المسار منذ اغتيال العلماء النوويين، مرورًا بفشل مؤامرات التخريب، يعرف أن الأمة الإيرانية لا تُقهر بالتجويع ولا بالتحريض.
أما رفع العقوبات، فليس مطلبًا ثانويًا. هو جوهر الاتفاق. ولا معنى لأي تفاهم نووي ما لم يشمل آلية واضحة وملزمة لرفع شامل وفوري للعقوبات. فالعقوبات ليست فقط إجراءات اقتصادية، بل هي أدوات حرب تُشَنّ ضد الشعب الإيراني، ومن دون رفعها، تبقى الثقة معدومة.
وإذا كانت واشنطن تتلكأ في هذا الشأن، فإن طهران تنظر شرقًا: نحو بكين وموسكو، حيث العقود تُوقّع بلغة الاحترام، لا الإملاء. ومَن لا يريد لإيران أن تميل إلى أحضان التنين والدب، فليقدم لها ما يستحقه الأسد الفارسي من احترام.
في هذا المناخ، تأتي تصريحات ساليفان عن “مرونة محتملة في إدارة ترامب” كنافذة صغيرة في جدار صلب. لكنها تظل هشّة ما لم تُترجم إلى التزامات واضحة. فالمرونة ليست أن تُخفَّف الشروط، بل أن يُعترف بحقوق الشعوب. والمفاوضات ليست ترويضًا، بل شراكة.
ليس سهلًا أن تصوغ اتفاقًا يحفظ السيادة ويهدّئ المخاوف، لكن هذا هو التحدي الحقيقي للدبلوماسية. ويمكن أن يتحقق إن ارتكز على مبدأ “المنفعة المتبادلة” الذي شدد عليه مركز CNAS: حق إيران في التخصيب السلمي، مقابل إشراف صارم، ورفع فوري للعقوبات، وتفاهمات حول باقي الملفات.
أما الرهان على كيان الاحتلال، لفرض “تخصيب صفر”، فهو رهان خاسر. هذا الكيان، الذي يشنّ اليوم حربًا إباديّة في غزة، لا يملك تفويضًا أخلاقيًا ليحدد من يستحق التكنولوجيا ومن يُحرَم منها. بل إن صمته عن السلاح النووي الذي يملكه، ورفضه الانضمام إلى (NPT)، يجعله في موقع الاتهام لا التحكيم.
ختامًا، فإن الجولة الخامسة من المفاوضات في روما ليست محطة تقنية، بل لحظة مفصلية في تأريخ السيادة الإيرانية. ما ستقرره هناك الأطراف، سيتردد صداه من الخليج إلى البحر الأسود، ومن شوارع بغداد إلى أروقة فيينا.
إن السلام لا يُصنع على طاولة إملاء، بل على سجادة تفاهم. وإذا أرادت واشنطن اتفاقًا حقيقيًا، فعليها أن تبدأ أولًا باحترام الطرف الآخر، لا بتقزيمه. وإيران، كما أثبت التأريخ، تُحاور لا لتتنازل، بل لتؤكد: أن السيادة لا تُساوَم، وأن الكرامة تُفاوض من موقع الندّ لا التابع.

من روما، يجب أن تُسمع الرسالة واضحة :

لا اتفاق بلا كرامة، ولا سلام بلا احترام.
كاتب مختص بالشأن الايراني