د. معن علي المقابلة: صوت من العالم وصدى صامت من الجوار: جوليان أسانج يكشف عن الإبادة في غزة بينما نعيش الاحتفال

د. معن علي المقابلة: صوت من العالم وصدى صامت من الجوار: جوليان أسانج يكشف عن الإبادة في غزة بينما نعيش الاحتفال

د. معن علي المقابلة

في أحد أكثر المشاهد تعبيرًا عن التضامن الإنساني، خطف الصحفي والناشط الأسترالي ومؤسس ويكيليكس، جوليان أسانج، الأضواء خلال اليوم الثامن من فعاليات مهرجان “كان” السينمائي الدولي في دورته الـ78، ليس بفيلم أو خطاب، بل بقميص حمل أسماء 4986 طفلًا فلسطينيًا لم تتجاوز أعمارهم خمس سنوات، قضوا تحت القصف الإسرائيلي منذ عام 2023.
وعلى ظهر قميصه، كتب أسانج عبارة حاسمة: “أوقفوا إسرائيل”، في موقف أخلاقي جريء أعاد تسليط الضوء على الجرائم المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني، لا سيما الأطفال في غزة. وبينما حضر برفقة المخرج يوجين جاريكي والمنتجة كاثلين فورنييه خلال عرض خاص لفيلم “رجل الستة مليارات دولار”، تحوّل ظهوره إلى رسالة سياسية صامتة لكنها مدوّية، في وجه آلة القتل المستمرة في فلسطين.
ردود الفعل لم تتأخر. فمؤيدو الاحتلال الصهيوني هاجموا أسانج بشراسة، واعتبر البعض موقفه “معاداة للسامية”، بل طالبوا بإعادته إلى السجن، متجاهلين سجله الطويل في فضح انتهاكات حقوق الإنسان حول العالم. إذ سبق أن اعتُقل في بريطانيا وقضى 50 أسبوعًا في السجن، بعد تسريبه وثائق سرية تدين دبلوماسيين غربيين، قبل أن يُفرج عنه في يونيو 2024 بموجب صفقة مع القضاء الأمريكي. ومع كل ذلك، لا يزال أسانج ثابتًا على موقفه، رافعًا صوته لمن لا صوت لهم، دون أن يساوم على ضميره.
في المقابل، وبينما العالم يعبّر عن تضامنه بوسائل متعددة – من مهرجانات الفن إلى ملاعب الرياضة – تغيب في بلادنا هذه الروح، بل تُستبدل أحيانًا بمشاهد احتفال وغناء صاخبة، وكأن غزة مجرد خبر عابر في نشرات الأخبار، أو أن أطفالها لا يمتّون لنا بصلة. كأن الدم الذي يُسفك هناك لا يُشبه دمنا، وكأن أولئك الشهداء لا يجمعنا بهم دين أو تاريخ أو هوية.
ما يؤلم أكثر هو هذا التحوّل في الحس الجمعي؛ فقد كنا حتى عهد قريب نتوقف عن الفرح إذا ما فُجع أحد أبناء قرانا أو محيطنا. كانت مشاعر التضامن فطرية، تُترجم إلى حداد وصمت ومواساة، لأننا كنا نؤمن أن الحزن شأن جماعي، وأن المصاب مشترك. فماذا حدث لنا؟ أين ذهبت تلك القيم؟ وأين أولئك الناس الذين كانوا يشعرون بوجع الآخرين كما لو كان وجعهم؟
الأكثر مرارة أن بعض الأصوات في مجتمعاتنا باتت لا تكتفي بالصمت، بل تتجرأ على مهاجمة المقاومة الفلسطينية، وتحميلها وحدها مسؤولية ما يجري، في تجاهل تام لتاريخ طويل من الاحتلال والقتل والتهجير. وكأن جرائم الاحتلال بدأت فقط في السابع من أكتوبر 2023. في حين أن الحقيقة الثابتة هي أن ما يحدث اليوم ليس سوى حلقة في سلسلة ممتدة من القمع بدأت منذ اللحظة الأولى التي وطأت فيها أقدام المشروع الصهيوني أرض فلسطين.
إن اختزال الصراع في لحظة واحدة، وتغييب سياقه التاريخي والسياسي، لا يعكس فقط جهلًا بالتاريخ، بل يعكس خضوعًا لرواية المحتل، وتواطؤًا صامتًا مع جلاد يحاول تصوير الضحية كجاني. فالشعب الفلسطيني، الذي يرزح تحت نير الاحتلال منذ أكثر من سبعة عقود، لا يطلب أكثر من حقه المشروع في مقاومة هذا الظلم، وهو حق تضمنه القوانين والمواثيق الدولية، وعلى رأسها اتفاقيات جنيف.
لقد رفع أسانج صوته من منصة عالمية، باسم أطفال لا يملكون فرصة للكلام. أما نحن، فما زال الصمت يعمّ، وربما أخطر من الصمت… هو الإنكار.
باحث وناشط سياسي/ الاردن
[email protected]