د. نجاة بقاش: الثلاثة شياطين

د. نجاة بقاش: الثلاثة شياطين

 

د. نجاة بقاش
بين اليوم والبارحة.. وقعت أحداث لم تكن متوقعة.. مسافات وفوارق غير مسبقة.. بينما كنت بين سراديب الحياة أمشي بخطى متعثرة.. لكنها ثابتة.. أبحث عن معنى يجعل الحياة مسالمة.. والأطراف متوافقة.. أصبحت في حيرة من أمري هائمة.. ظننت أن الحاضر سوف يكون لي مبتسما.. إلا أنني لم أجد ما كنت عنه باحثة.. وجدت الأقدار لي بسيفها مبارزة.. وجدت أوضاعا علها لم تكن حاضرة.. خيبة أمل أصابت من كانت بالجنة حالمة.. أفكار تراودني.. ترفعني نحو السماء ثم تلقي بي على الأرض غير مبالية.. ذكريات عنيدة لم ينل منها النسيان.. نضارتها ما زالت تشعل في بدني النيران.. تارة تضمني.. تغمرني.. تداعبني.. توشك الأحلام أن تصبح ربيعا.. وتكاد الأرض أن تكون نعيما.. وتكون السماء لي مناصرة.. تغمرني الفرحة كالأطفال.. وتارة تكون لي بحسامها مباغتة.. تطردني.. تطاردني.. تصدني.. تعصرني.. تقف في وجهي بالمرصاد.. فتصير أوزاري مضاعفة.. تحاصرني الأشجان.. توقظ اللهيب في صدري.. تدمرني.. تخذلني.. تجردني من كبريائي.. تحرمني من لذة تلك الأيام.. تذكرني بمدى غدر الإنسان.. تعريني.. كما يعري الخريف الأغصان.. تعصف بي الرياح.. تلقي بي.. تحطمني.. تتراقص الدموع في عيني.. تهطل كالأمطار.. تغمرني الأحزان وأنا أستحضر الشياطين الثلاث..
رفعت عيني إلى السماء له معاتبة.. “كيف تتركني أهذي شاردة ؟.. ألم يغتصبوا الأرض في العلن؟.. ألم ينتهكوا الحق بلا سبب.. على مرأى العالم ومسمع؟.. غارات أبادت الإنسان في المعقل.. أتلفت الأشجار في المنبت.. ما نفع الشكوى الآن يا أبتي؟.. قبل أن يأتوا على الأشجار وعلى الديار.. ناديتك يا ربي كما وعدتني.. وجدت نفسي واقفة بغير عمد.. ناديتك يا ربي.. غائبا كنت، لدعائي لم تستجب.. كسروا ديارهم.. كسروا ظهري.. سلبوا أرضهم والدور على من سيأتي؟.. ما أصعب موعد الاحتضار.. لحظة الانتظار.. وما أصعب الخيانة دون قتال.. صحيح، آلمتني ضربات العدو.. إلا أن غدر الإخوة والرفاق.. لأقسى عندي من ضربات الدهر.. ناديته يائسة عند بزوغ الفجر.. مالي أرى زمنا لقرون ولت أصبح يشبه.. فراعنة غدت بشأن حالنا تهتم.. بينما كنت لعصر النهضة أترقب.. لرد شاف أنتظر.. جاءني الرد صاعقا.. يا ليته عن غيهم لم يخبر.. عجلة التاريخ للورى أصبحت تتدحرج.. والتفاهة في كل المناسبات تصيب وتصدح.. الخير خائف والشر ينطح.. هذا ظالم وهذا مظلوم، من الطالح من الصالح؟.. الجواب غائب.. الاحتمال وارد.. والاحتيال هو السائد..
سقطت السماء من هول كلماتي.. ولم أرها تسقط من هول الغارات.. أجابني مؤكدا: “تمهلي يا قليلة الصبر.. ما أنا بغائب عنك يا أمتي.. ما كنت يوما بمخالف لوعدي.. وما كنت بمهمل بأمر عبدي.. هو قوم اختار أن يكون مغضوبا عليه.. هذا مصير من احتال علي وعليه.. واختار ما لم آمر به.. أنا الرب إلههم لقادر عليهم.. أوصيتهم ألا يعبدوا غيري.. وألا يناصروا الشيطان ويعصوا أمري.. ألا يسلبوا أرضا.. ويقتلوا من غير حق نفسا.. أضرموا في الدار نارا.. حرفوا قصدي عمدا.. واختاروا الدنيا عني بدلا.. ازداد بطشهم في الأرض وأفسدوا.. في ملذات الحياة تمرغوا.. ويل لمن عصى بالتعالي أمره.. خسروا الآخرة لربهم لم يتضرعوا”..
نظرت حولي علي أجد من أبادله نظراتي.. فلم أجد سوى إسحاق يتربص بي.. هي سنوات مضت وارتحلت.. أشياء عنا ضاعت وتغيرت.. بنبرة متحايلة وبصوت مضخم راح ينصحني.. لإهانته ما كنت قط أنتظر.. قال: “يا بنت العم، والله إني على حالك لأشفق.. الحلال بين والحرام بين.. بين الاثنين، وقت ضائع والحيرة تقتل.. عليك أن تختاري.. بينهما عليك ألا تحتاري.. إذا كان التاريخ قد خانك.. والحاضر لم يوف بوعده لك.. ما جدوى أن تقفي صخرة في طريقك.. مادام الرتيب هو الثابت.. والفساد هو السائد.. والحظ قليل باهت.. مادام الله والوطن في القلب ساكن.. الخرائط مجرد أشكال و”خربشات”.. ارحلي، فالرحيل خير من ألف هكتار..ات.. والصدف خير من ألف ميعاد.. لو لم أتمعن في كلام إسحاق جيدا.. لكادت بلاغته أن تذبحني بالمنشار..
بين اليوم والبارحة.. مازال الحال على حاله ثابتا.. مازلت عن الهدف تائهة.. خائفة.. ضائعة.. مازلت أعيش تفاصيل الجائحة.. على إيقاع الوعود الكاذبة.. مازلت إلى الحضن الدافئ حالمة.. أوصاني إسحاق أن أكون عنها (الأرض) راحلة.. حاول خداعي للمرة العاشرة.. ناسيا أنني عن دهائه ما عدت غافلة.. نسي أن يقص علي قصته الكاملة.. وأن يجعل من أحداثها سياقات وخاتمة.. هو من ضيع عمره في الأوهام متعاليا.. وأضاع عني متعة الأنوار المتلألئة.. متعة الأدوار المتألقة.. جعلني عن الحقيقة ما زلت تائهة.. أنا التي لم تفقد ملامحها رغم مرور السنين.. بين “الحسيمة” و”العاصمة”.. أنا التي لم أفقد صوابي رغم “الحمية” و”العاصفة”.. أنا ما زلت الطارئ الذي يخشاه قائد الطائرة.. أنا التي انطفأ بريق الأمل في مقلتيها.. بين اليوم والبارحة.. أنا القصيدة الممنوعة التي.. أزعجت السلاطين بنظمها.. أصابت الحجاج بسمها.. وأسرت الملايين بسردها.. أنا من تصدت لعواء الغرب ولنباح الشرق بأنيابها.. وقاتلت من حاول إضرام النار في بيتها.. من أقسم بأن يعيد التربية لأبنائها.. وبأن يمحي من الدفاتر (عار).. بصمة أهلها.. من الماء والهواء توعد بأن يحرمها.. حتى تجف أوتار حلقها.. وتجف آبار أراضيها.. وتموت آخر ثمرة شوك فيها.. وحين نبهته لجسامة الأمر.. لخطورة اللعب بالنار.. أعلن التطبيع في الحين.. وقال هكذا يروض التنين في الصين.. وحين أشرت لجهله بأصبعي.. قام سعادته ببتر يدي.. حتى أكون عبرة لغيري.. وحينما رفعت صوتي أستفسر عن المال والمآل.. عن الذهب والفضة.. عن الكوبالت والفوسفاط.. قال تبا هذه تجاوزات تستهدفني.. حينما تساءلت عن سبب قلة الماء وغلاء المعيشة.. قام بتحطيم الرقم القياسي في رفع الأسعار.. أصدر مذكرة بالإغلاق.. وضع ترخيصا للشرب والاستحمام.. وضعني “بين مزدوجتين”.. بين وضعية البعير ووضعية الحمار.. جردني من كل المهام.. اشتغل الزنان ضغط على الزناد.. حكم علي بالإعدام.. رفعت في وجهه لافتة الاحتقان.. قال ما سمعنا بهذا.. إنها لغة تدل على العصيان.. تفوح منها رائحة مطبخ الجيران..
يا من سلمت له صوتي في طبق من ألماس.. ثقتي لم تسلم من اليأس والبأس.. امتثالي لم يشفع لي بالبقاء.. لم يراع له أي التماس.. هي مواقف فيها ثمة التباس.. مخططات من وحي الاقتباس.. حرارتها من حرارتهم تولد الاحتباس.. تخنق المسام والأنفاس.. قلت له في عهدك وجدوا للفساد عذرا.. أصبح لهم أنياب وأذرع.. طردوا أصحاب الأرض قسرا.. ضاقوا ذرعا.. قلت له: “يا سيدي، الإنسان أولا.. ما عدا ذلك، فهو يأتي لاحقا.. رد علي مستاء: “كيف تجرئين على قول ذلك.. للحيطان آذان صاغية؟.. التفاهة فلسفة، عليك أن تتقبلي ذلك”.. قلت: “وما حكم الظالم.. ومن يرضى بالذل.. ويسكت عن الحق.. أ هو في الجنة أم في النار؟.. قال: “مجنونة أنت”.. قلت: “الكرامة قبل الخبز”.. قال: “انفصالية أنت”.. حين صرخت يا حسرتاه.. من العدل والسعادة لم أنل حقي.. من المستشفى والمدرسة لم أنل حضي”.. قال: “خائنة للوطن أنت”..  قلت: “هذا مسجد وأنت فيه الإمام.. وهذه سياسة، والسياسة في المسجد حرام”.. وبينما كنت أصيغ البيان لأرد على ذاك البهتان.. نيابة عمن كانوا مصطفين حولي.. رأيت المفتي ببذلته السوداء يتجه نحوي.. نظرت حولي.. فر كل من ظننت أنهم كانوا حولي.. صاح الحجاج: “يا للهول، إنها آية من آيات الشيطان”.. تأكدت حينها، أن ما رجوته كان من نسج الخيال.. اتجهت نحوه قائلة: “ما تهمتي”.. تجاهل المفتي السؤال.. فكررت سؤالي.. “ما تهمتي”.. وجدت نفسي أخاطب الجدران.. بعد أن أنهى مهمته،  ذهب المفتي ليتلقى راتبه.. تاركا وراءه إعصارا ودخانا.. ما عسى أن يقوله أو يفعله.. بعدما قالت عيناه ما عجز عنه اللسان.. قلت له مشفقة: “بالله عليك، بعد هذا العمر، من تخاف ومن تخشاه ؟.. فرد علي من وراء الستار: “أصبح للعالم أنياب.. وأنا فيه صرت ضعيفا.. اعذريني يا أختاه، إذا كنت عليك أسدا.. قلت له مستغربة: “أين المال والجاه والسلط.. أين المباخر والعبادات والمعابد.. أين سايلا والحجاج والمحافل؟”.. قال مقاطع: “صلواتي لم تعد تجد نفعا.. والله أوصى بألا تعرض للتهلكة أنفسا”.. أشفقت من حاله رغم.. أن حالي ليس أفضل من حاله..
سمع الحوار الزعيم المنتخب.. فهم المغزى.. راح يؤدي دور المهدي المنتظر.. قال: “كل مآسي هذا الزمن، أنت فيه السبب.. صمتك هو السبب.. صوتك هو السبب.. جبنك هو السبب.. صبرك هو السبب.. سكونك هو السبب.. سكوتك نقمة لم يكن من ذهب.. لما البكاء إذن، بعدما كنت أنت السبب”.. قلت مستغربة: “المظاهرات في عهدكم شغب.. كلامكم أصبح من خشب.. حروف جرائدكم رموز على ورق.. دعمكم للتفاهة، دمر الروح والجسد.. فضلتم اللهو والجيد والعسل.. رفضتم الكد والجد والتعب.. ألفتم الألقاب والرتب.. عشقتم المال والذهب.. نسفتم الأخلاق والقيم.. نسيتم رسالة من ولى وارتحل”.. قاطعني السياسي كعادته، أدركت أن كلامي نزل عليه كالبرق والبرد.. قال: “أنا سياسي عليك أن تتفهمي الأمر.. مبرراتي فولاذية رغم رخويتها.. مواقفي مطاطية عبقري من يفك شفرتها.. ولغتي خشبية طوبى لمن يتقنها.. أهوى المكبرات والميكروفونات.. تفتح أمامي أبواب السماوات.. أعشق المقدمات و”المؤخرات”.. أهوى الولائم والانتخابات.. لا تهمني التهم ولا الإشاعات.. ولا تخيفني “الحسابات” ولا “المحاسبات”.. أنا السياسي الذي يحطم جميع القياسات.. يحبط الآمال ويقطع الأرزاق.. لساني مرن يتقن جميع الرقصات.. لذع.. لزج.. لكنه لا يحب الانتقادات.. أنا السياسي الذي يتقن فن القفز والقنص.. ما وجدت الخيرات إلا للنهب.. وما وجد الأغبياء إلا للنصب.. مواقفي ليست صلبة.. تتأثر حينما يناديها النفع.. أنا سياسي “مصلحجي” بالفطرة.. وانخراطي لم يكن محض الصدفة.. تعليمات أنفذها بالجملة.. أحبها.. تجعل مني كائنا لا يخاف ولا يخشى.. يتجمل ويكذب بلا حشمة.. أطير من حزب إلى حزب كالفراشة.. كلما ندي علي أو أتيحت لي الفرصة.. أغير الحقائق طبقا لتعليمات ترى ذلك.. ولأنني سياسي بالطبع.. علي أن أقول ذلك.. وأقوم بذلك.. وجدت لأكون كذلك.. أنا أتقن ذلك.. يعجبني ذلك.. بل أتفانى في ذلك.. وأنت لا تستطيع فعل ذلك”.. أحسست بصداع شديد وهو يسترسل في ذلك.. أحسست بالغثيان وبالدوران.. من شدة ذلك.. لا أدري هل أحقد عليه.. أم أشفق عليه  رغم ذلك.. هل أحمل سيفي عليه.. فأحمله ما لا طاقة له.. على ذلك.. أضاف مؤكدا: “أعلم أنكم في محنتكم لصادقين.. تالله لشكواكم نحن غير مستجيبين.. نحن سياسيون.. على عقيدتنا نحن سائرون.. وعن السياسة لسنا راحلين”.. قد تتوب الشياطين يوما وتغلق الأبواب.. ويستفيق عباس بعد أن ضرب أسداس بأخماس.. قد يستعيد التاريخ بريق الأحداث.. وتعيد الحاميات هبة الأجراس.. قد تتوحد يوما كل الأجناس.. إلا أن على ذي الطباع تطبعت الضباع..
لم أترك بابا إلا وطرقت بابه.. علي أجد حلا لصروف الدهر وصروفه.. في سرية تامة استقبلني اللواء في مكتبه.. بعد أن قام بتحريات لمعرفة سبب مجيئي.. من باب المجاملة رحب بي.. قبل أن يسألني عن هويتي.. وعن سبب زيارتي.. قدم لي فنجان قهوة مصحوب بحلوى “براونيز” اللذيذة.. وراح يحدثني عن مزايا الشكلاطة المرة على صحة القلب وتحسين وظائف المخ.. نسي أن يخبرني عن سبب ندرتها في الأسواق وعن ثمنها الباهظ..  بفضل حدسه وذكائه الحاد.. راح مسرعا بتغيير الحديث نحو اتجاه ثاني.. وجدت نفسي أحدثه عن سبب امتعاضي من اللون.. الأسود.. والأحمر.. والأزرق.. ثم شرعت بعرض طلبي قائلة: “أتيتك يا سيدي بعد أن نفذ صبر صبري”.. منهارة مستاءة من أمري.. “وطني سقيم.. وطني عليل.. في العناية المركزة منذ زمن ليس بقصير.. آلام في العظام وفي المفاصل والطريق طويل.. أجهزة معطلة مكتوبة بالبنط الغليظ.. إدارات خالية من الرأي السديد.. لا أحد يجرأ على تغيير المصير.. قرارات مجحفة في حق الضعيف.. والتقارير تؤكد أن كل شيء سليم.. وأخرى تقول إن الأمر بين أيدي العلي القدير.. الأحزاب كما المنظمات.. لا أحد يعلم أين تتجه أو إلى أين تسير.. عاجزة عن ترجمة أحلام الجماهير.. إلا أنها قادرة على أن تثبت للعالم.. أنها على كل شيء قدير.. أصبحت من المشاهير تسير على البساط الأحمر الطويل.. هي التزامات موقعة مترجمة في مراسيم.. تشبث غريق بغريق.. دساتير مظهر متناغم مع مواثيق.. هكذا يموت الجوهر وتحيا التفاصيل..
بحلة بهية جميلة.. تطل علينا مذيعة النشرة الرئيسية.. رشيقة سعيدة.. تخبرنا بأن السياسة الحكومية سديدة رشيدة.. مؤسسات تعمل كخلية النحل الدؤوبة.. أحوال البلاد مطمئنة مستقرة.. والشعوب عن أحوالها راضية مرضية.. تصلي في اليوم بدل خمس.. عشر صلوات.. وتحمد الله على النعم كثيرا.. والصحف بكل إيقاعاتها وتلاوينها.. تؤكد أن الانتخابات كانت شرعية نزيهة.. وأن تكميم الأفواه.. واختزال المطالب مهمة مشروعة.. وتضيف المذيعة النبيهة.. بأن سياسة الحكومة بنودها أبيات شعرية.. بنياتها.. إداراتها وإرادتها رهن الإشارة.. ملاعب وأبراج تدل على النعم الكثيرة.. تقارير وخطب تحكي عن أشياء جميلة.. تعود إلى اثني عشر قرنا.. تتحدث الأخبار عن أمور عظيمة.. ليتها كانت صحيحة.. الواقع يؤكد غير ذلك.. هي أحوال متدهورة وأرقام مخيفة.. سياسة مبهمة نتائجها مريبة.. السبل إلى السعادة منعدمة معدومة.. يسفر الواقع عن فجوتين.. ويسير القطار بسرعتين.. العالم يحكمه منطقان.. والإنسانية بين منزلتين..
في وطني، أصبحت أدعو الله في صلواتي.. ألا يساء فهمي أو يخيب ظني.. وألا توقفني حواجز الأمن لتتحقق مني.. أطلب الله ألا يشكوا في اسمي أو انتمائي.. ألا يغيروا ملامح مدينتي.. وأفقد توازني.. أطلب الله ألا يشكوا في وفائي وإخلاصي.. أو يطلبوا صك الغفران مني.. أطلب الله أن يسمع ندائي وألا ينزعوا الشواهد مني.. ويصاب بالجنون جنوني.. في وطني، تقع أشياء عجيبة.. أخشى أن أحكي قصتي الغريبة.. وتتفاقم همومي الكثيرة.. أطلب الله ألا أمرض أو أيأس.. ألا أجوع أو أظمأ.. والزاد قليلا.. ألا أغطس وأغرق والبحر عميقا.. ألا أفكر أو أحلم.. وأندم كثيرا.. أطلب الله أن يدوم علي سحر التعويذة.. حتى لا أنسى وأنطق بالحقيقة.. حتى لن أحكي عمن كمموا الرفيق والرفيقة.. عمن احتلوا الأرض وسرقوا الأريكة.. حتى لن أحكي عن شر الصديقة “الشريفة”.. وصديقها الذي جعل رتبته بلا “قيمة”.. عن الذي أفسد الأخلاق واغتال لطيفة.. وجعلني أكره حلوى “براونيز”.. بطعم الشكولاطة ..
استمع لي اللواء من البداية للنهاية.. دون أن يقاطعني بكلمة واحدة.. قلت مسترسلة: “اختصروا الوجود في كلمتين.. وضعوا “الحرية” بين مزدوجتين.. أخضعوا الذكاء للخبرة مرتين.. وضعوا “الشواهد” بين قوسين.. يطلب السياسي أن نغني ونرقص.. ألا نصيح ونصرخ..  ويطلب الفقيه أن نحمد الله ونصمد.. ألا نعصي الأوامر ونصلب..  بينما بن عمي ينصحنا أن نترك الأرض ونصفح.. ونحن على بيع الأرض لا نجرأ..  بموقف صارم تجاه البيان.. وبلهجة حادة وجه لي السهام.. قصفني اللواء بأقوى عتاب.. جارحا دون اكتراث.. كانت لهجته شديدة إلا أن وقعها كان متوقعا.. صاح بأعلى صوته قائلا: ” جعلتم منهم ضباعا لا تشبع.. لا ترى لا تسمع.. بالأمس طلبتم أن ننأى وبعد.. واليوم تطلبون أن نعود.. سجل حتى لا تنسى أو تتوه.. الوطن لمن يستحقه، وعودتنا سوف تطول”.. ثم راح يضيف وهو أكثر هدوءا وسلطة.. “الوعي والإدراك مهمان لتجاوز الأزمة.. والتشخيص أولا حتى لا نعيد الكرة.. هذا مآل من لم يفهم الدرس فتتكسر الجرة.. وتضيع من بين يديه الفرصة”.. أجبته خجولة مهزومة.. “أعلم أنها بنيات متناقضة المبنى والمعنى.. إذا كانت بنيتي في منتهى الضعف والمحنة.. بنيتكم ليست في منتهى الروعة.. ما كان عليكم أن تقبلوا بالمال والثروة.. وتنسوا ما قيل عن النار والثورة.. كما أعلم أن أملي أكل عليه الزمان.. إلا أن خطوتين إلى الوراء خير من خطوة إلى الأمام.. ويبقى الوطن فوق كل البنيات والاعتبارات.. فوق كل التفاصيل والجزئيات.. أعلم أن المساحات والمسافات مختلفة.. وللديمقراطية مفاهيم ضيقة.. وأعلم أن السلطة في يد واحدة آفة قاتلة.. كمن يضع البيض كله في سلة واحدة.. قد لا تتفق تماما مع الإرادة الشعبية.. كما أعلم أنني مجازفة.. أدعوك أن تكون مثلي مغامرا.. قد نكون مختلفين من حيث الشكل والمبدأ.. من حيث اللسان واللباس والمنبع.. إلا أننا لن نوضع في القالب ولن نرض بالمقلب”.. طأطأ اللواء رأسه.. التزم الصمت مدركا أن الأمر ليس بالهين.. والتدخل لن يكون بالمطلق.. طلب مني مهلة للتفكير حتى لن يخطئ.. حتى يرتب أوراقه  قبل أن يبدأ.. بدون أن أشكره أو يشكرني.. بدون أن أصافحه أو يصافحني.. تركني، راح يكلم سيجارته.. تركت اللواء وأغلقت الباب خلفه.. شكرت الله الذي هداني لهذا المآل.. لعنت من أوصلتنا لهذا الحال.. لعنت شياطين وطني.. رحم الله أبا مطر حين قال: “الشياطين في وطني ثلاثة”..
كاتبة من المغرب