نموذج كيدار: انتهاك البيئة الفلسطينية لتشكيل واقع جغرافي جديد.. حالة جنين كمثال

نموذج كيدار: انتهاك البيئة الفلسطينية لتشكيل واقع جغرافي جديد.. حالة جنين كمثال

زهرة خدرج

في 29 مارس/ آذار 2025 صرَّحت بلدية جنين أن مخيم جنين أصبح منطقة غير صالحة للحياة على الإطلاق، مع العدوان المتواصل لجيش الاحتلال على المدينة ومخيمها، والذي بدأ في 21 يناير/ كانون ثاني الفائت، ولا يزال مستمراً حتى تاريخ كتابة هذه السطور.
ومنذ ذلك الوقت فرض الاحتلال حصاراً مشدداً على محافظة جنين وهَدم 600 منزل، ودَمر البنية التحتية للمخيم كاملة، وذكر موقع والا العبري أن “قائد المنطقة الوسطى في الجيش قرَّر تفكيك المخيمات وتحويلها لأحياء”.
العبث بالجغرافيا.. هل يمضي في درب السيطرة على الأرض؟
عمدت “إسرائيل” ومنذ بداياتها إلى اتِّباع مجموعات من الإجراءات العدائية سعت إلى الاستيطان والتهويد، بممارسات استهدفت المعالم الجغرافية والبيئية في فلسطين والمنطقة العربية المحيطة أيضاً، ما أدى إلى تغييرات عميقة وواضحة.
ففي أعقاب حرب 1948 سيطرت “إسرائيل” على قرابة 78% من مساحة فلسطين التاريخية، ودمرت ما يقارب 420 قرية فلسطينية، وشرَّدت قسراً 726 ألف فلسطيني من ديارهم، وما تزال سياسة الاحتلال ذاتها متَّبعة حتى اللحظة بهدف فرض واقع جديد على الأرض، يرمي إلى تطويع جميع الظروف لسلب الأرض وتهجير سكانها، بهدف تنفيذ مخططات لا تفارق العقلية الاستئصالية، بل تنغرس فيها عميقاً ومنذ القِدم.
بواسطة آلية قضائية بيروقراطية معقدة، استولت إسرائيل على حوالي %50 من مساحة الضفة الغربية، اُستخدمت أساساً لبناء المستوطنات أو احتفظت بتلك المساحات احتياطاً لحالة قد تقتضي الحاجة لتوسيعها لاحقاً.
 ويهدف البناء والتوسع الاستيطاني إلى السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأرض التي يسكنها أقل عدد ممكن من الفلسطينيين، وفق منطق “أرض أكثر وسكان أقل”، في مشهد مُعد مسبقاً لتجزئة المكان الفلسطيني ضمن منطق الفصل العنصري (الأبارتهايد).
وتُظهر سياسات الاحتلال هذه؛ استراتيجية واضحة لتفتيت الضفة الغربية، وتقسيم أراضيها إلى مناطق معزولة جغرافياً ليكون ذلك عقبة تحول دون إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة في المستقبل.

** مردخاي كيدار: باحث وخبير إسرائيلي، مختص في الثقافة العربية ومحاضر في جامعة “بار إيلان”، ويعد أحد أعمدة البحث والتفكير في “إسرائيل”.
منذ عام 2012، أخذ كيدار يروج لأنموذج حل فلسطيني إسرائيلي للمنطقة تحت مسمى” حل الدول الثماني” أو “الإمارات الفلسطينية”. يرتكز أنموذج كيدار على تقسيم الضفة الغربية إلى معازل منفصلة، تتحول فيها كل مدينة إلى كيان إداري وسياسي منفصل له مرجعية عشائرية وإدارية تتعامل معها “إسرائيل”.
وهذه المناطق هي: قطاع غزة، جنين، نابلس، رام الله، أريحا، طولكرم، قلقيلية، والشق التابع للسلطة من الخليل. ويستند حل الدول الثماني إلى علم اجتماع الشرق الأوسط، الذي يعد القبيلة حجر الزاوية الرئيس للمجتمع، ويجب السير على نهج هذه الثقافة الشرق أوسطية أساسًا للحل الإسرائيلي الفلسطيني.
وبعد مرور قرابة 12 سنة من بدء تنفيذ أنموذج كيدار، يلاحظ بوضوح أنه لم يعد هناك اتصال جغرافي بين المدن في الضفة، وحتى الاتصال بين المدينة وقراها تنطبق عليه القاعدة ذاتها.
 أصبحت المناطق الفلسطينية مجرد جُزر مقطّعة عن بعضها، ترصد البوابات العسكرية مداخلها ومخارجها وتُغلقها وتتحكم بها. كما تقلصت المساحات التي يسكنها الفلسطينيون، حيث اقتصر التواجد الفلسطيني على نحو 13% فقط من مساحة الضفة الغربية التي تشكل قرابة 21% من مساحة أرض فلسطين التاريخية، ونستطيع بذلك القول إن خطة كيدار انتهى تطبيقها جغرافياً كاملةً.

كيف تُغيَّر الجغرافيا في الضفة؟
الملاحظ أن التغييرات الكبيرة التي يُجريها الاحتلال على الجغرافيا عبر مهاجمة التجمعات السكانية الفلسطينية في الضفة تُلحق الضرر بالسكان الذين يقطنونها منذ فترات طويلة، كما تؤدي إلى تدمير البيئة، وتستنزف مواردها، على سبيل المثال لا الحصر:
نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت بتاريخ 26 آذار 2025 خبراً مفاده أنه حتى الآن، وفي إطار العدوان العسكري الذي يقوم به الاحتلال على مخيم جنين في شمال الضفة الغربية “الذي أطلق عليه اسم السور الحديدي”، وبعد هدم المنازل وتجريف الشوارع، تغير مظهر المخيم إلى حد كبير (حيث هُجِّر غالبية سكانه قسراً، ونُشرت كتيبة من جيش الاحتلال حوله لمنع عودة المسلحين، كما قرر الجيش منع الفلسطينيين من إعادة البناء في المناطق المهدومة، بغض النظر كان ذلك طرقاً أو منازل، بهدف الحفاظ على حرية العمل العسكري داخل المخيم بسرعة وفعالية).
وبحسب الصحيفة، فإن هذا الإجراء يُعد غير مسبوق، حيث يسعى الجيش لإعادة تشكيل المخيم هندسياً بجعله مجرد حي داخل مدينة جنين، وقد نُفِّذت خطوات مشابهة في مخيمي طولكرم ونور شمس ولكن على نطاق أصغر.
وتناقش قيادة الاحتلال للمنطقة الوسطى في الضفة الغربية خططاً مشابهة تستهدف جميع مخيمات الضفة والبالغ عددها ثمانية عشر مخيماً، لأي مخيم يشهد أياً من مظاهر المواجهة التي شهدتها مخيمات جنين وطولكرم.
وتبذل دولة الاحتلال كل جهد لديها لجعل حياة الفلسطينيين مستحيلة وتفتقر لأماكن العيش في كل مكان يشهد أي نوع من مواجهة الاحتلال، ولا يتوفر فيها أي من الخدمات المدنية التي يحتاجها المواطنون لمواصلة الحياة الطبيعية؛ من تعليم وصحة وشبكات ماء وكهرباء وبنية تحتية وغيرها، ليترسخ لدى الناس انطباع باستحالة مواصلة العيش في تلك المناطق، لعل ذلك يدفعهم للرحيل عنها.
هذه الخطوة الأخيرة، تسبقها خطوات عديدة كان هدفها أيضاً هندسة الجغرافيا كاملة، وما أنموذج كيدار إلا إحدى هذه الخطوات، ففي العقود الماضية شُكِّلت وبتسارع الأحزمة الاستيطانية، وأُنشئت لها الطرق الالتفافية التي خُصصت للمستوطنين، وصودرت أراضي الفلسطينيين بذريعة إقامة معسكرات الجيش ومناطق التدريب العسكري، فضلاً عن استحداث أنماط جديدة من الاستيطان تخدم الهدف ذاته مثل المحميات الطبيعية والاستيطان الرعوي والسياحي والديني وغيرها.
عمليات الهدم والتدمير وتغيير الجغرافيا امتدت في الضفة الغربية وطالت معظم المناطق ولم تقتصر على مخيم جنين، على سبيل المثال، الأحياء القديمة لمدينة نابلس وأطرافها ومحيط قبر يوسف كانت عرضة لاقتحامات يومية، إضافة إلى عمليات الهدم والمداهمات للمخيمات المحيطة بها، والبلدة القديمة في مدينة الخليل محاصرة أيضاً، وعديد من منازلها مهددة بالإزالة من البؤر الاستيطانية التي تُنشأ على أراضيها.
 كما ترّكز التدمير والهدم أيضاً في مدينة طولكرم التي أضحت عرضة لاقتحامات دائمة مع استهداف مستمر لمخيمي نور شمس وطولكرم، فيما تتواصل عمليات التفجير وهدم المنازل وتجريف الشوارع والبنى التحتية.
لا تسلم مدينة قلقيلية كذلك؛ من اقتحامات متواصلة واستهداف دائم للمباني القريبة من جدار الفصل العنصري، كما يُمنع التوسّع العمراني فيها لوجود الجدار والمستوطنات التي تحاصرها من جميع الجهات. ومدينة رام الله أيضاً ليست بمنأى عما يجري في الضفة، فالمدينة ومخيماتها والمناطق الريفية التابعة لها عرضة للاقتحامات، وبخاصة مخيمي الأمعري والجلزون.
الأثر البيئي لتغيير الجغرافيا في الضفة
يجري تغيير الجغرافيا على قدم وساق في الضفة الغربية كما لاحظنا أعلاه، ويؤثر ذلك سلبًا ومباشرة على البنية البيئية والإيكولوجية، وعلى البنية الاجتماعية والاقتصادية أيضاً، فالاقتحامات العسكرية المتكررة واستخدام الجرافات الضخمة لتدمير الطرق أو البُنى التحتية، وهدم المنازل والمباني السكنية، وقصف وتفجير المواقع التي تشهد أي شكل من مواجهة الاحتلال، وفرض القيود على التوسع العمراني ومنع البناء والترميم في مناطق يستهدفها الاحتلال، ومحاصرة تلك المناطق والتضييق على تحرك ساكنيها، وإزالة الطرق والمَداخل المؤدية إليها وإغلاقها بالحواجز أو البوابات المعدنية أو المكعبات الإسمنتية، وتجريف الأراضي بحجة الأغراض الأمنية، كل ذلك وغيره يؤدي إلى التالي:

الضوضاء والتلوث الهوائي: حيث يتسبب الاستخدام المتكرر للأسلحة والمتفجرات، والمركبات العسكرية الثقيلة في رفع مستوى تلوث الهواء، كما يخلِّف ضجيجاً مزمناً يضر بالصحة النفسية والجسدية.

تلوث عناصر البيئة داخل المناطق المتضررة: حيث تُهدم وتتأذَّى أنظمة الصرف الصحي والمياه غالباً في الاقتحامات، فتتسرَّب المياه العادمة للتربة وتزداد احتمالية اختلاطها بمياه الشرب، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة الأمراض المرتبطة والمنقولة بالماء.

تلوث التربة والمياه: ينشأ من كميات الركام الكبيرة الناتجة عن عمليات الهدم والتدمير، وتحوي أنقاض ونفايات (من بقايا الخرسانة، الطوب، والحديد والمعادن الأخرى المستخدمة في الإنشاءات، والخشب، والزجاج، والبلاستيك، ومواد الطلاء، والمواد اللاصقة وغيرها)، ويصعب إزالتها بسرعة بعد انسحاب جيش الاحتلال وانتهاء العدوان، تتراكم هذه المواد عشوائيًا، وتتسبب بتأثيرات بيئية وصحية خطرة لاحتوائها على مواد كيميائية ومعادن ثقيلة أو مركبات سامة، وتؤدي إلى تقليل المساحات الصالحة للحياة والزراعة.

تضييق المساحة المتاحة لسكن وأنشطة المواطنين بسبب عدوان الاحتلال المتكرر وممارساته القمعية، ما يزيد الكثافة السكانية في المساحة المتبقية أو المناطق الأخرى القريبة، كما يتسبب بنزوح السكان إلى مناطق أخرى أو إعادة توطينهم، ما يؤدي إلى ضغط كبير على الماء والكهرباء، ويولِّد نفايات أكثر مما تستطيع البيئة استيعابها.

تأثيرات غير مباشرة مثل فقدان الشعور بالأمان، ما يدفع الناس لأن يكونوا أقل اهتماماً بالبيئة وبالحفاظ عليها، إضافة إلى أن تعطل التعليم والخدمات الصحية يمنع تطوير وعي بيئي فعال في تلك المناطق، ويتسبب بحدوث أزمات إنسانية واسعة.

وتستمر محاولات الاحتلال الدؤوبة لاقتلاع الفلسطيني من أرضه بمختلف الأساليب، مسبباً له معاناة إنسانية يومية لا توصف، فيقدم البيئة كبش فداء على مذبح مخططاته كي يحقق الأهداف الاستئصالية التي يصبو إلى بلوغها.
خاص بآفاق البيئة والتنمية