الشبكة السياسية: نمط حيوي لجسد مصاب وأمة خاملة

د. هاني الضمور
لفهم الواقع السياسي كما نعيشه اليوم، لا يكفي أن نصف أعراضه، بل يجب أن نحلله كما يُحلل الطبيب جسمًا يعاني مرضًا مزمنًا. الأنظمة الاستبدادية، والشعوب الخاملة، ليست مجرد ظواهر اجتماعية، بل كائنات حية اختلت فيها وظائف المناعة، وفقدت خلاياها القدرة على التجدد الذاتي.
نحن لا نعيش في فراغ سياسي، بل داخل “كائن بيولوجي” معقد، يشبه جسدًا حيًا، يتكون من أجهزة وأعضاء ووظائف متداخلة: الحاكم هو الجهاز العصبي المركزي، الإعلام والتعليم هما الجهازان الحسيان، والشعب هو الخلايا والأنسجة. وحين يتعرض هذا الجسد لمرض مزمن كـ”الطغيان”، فإن الخلل لا يكون في الرأس وحده، بل في تعطّل آليات التصحيح داخل الجسد كله.
الطاغية، في هذا النموذج، ليس فيروسًا غريبًا، بل ورمٌ ناتج عن فشل جهاز المناعة في رصده وتدميره. هو نقطة نمو شاذّة، استقرت في بيئة سمحت لها بالانتشار، لأن الخلايا المناعية (أي الضمير الجمعي) أصيبت بالشلل أو الفساد أو الكسل.
أما الشعوب، فهي مثل الخلايا التي فقدت حسّ الاستجابة، لا تبادر، بل تتكيّف مع السمّ وتتعامل معه كأمر طبيعي. ومع مرور الوقت، تدخل في حالة تُعرف بيولوجيًا باسم “الخمول الخلوي”، حيث تستمر في العيش، لكنها لا تنقسم، ولا تتجدد، ولا تقاوم.
في الجسم السليم، هناك آلية تُعرف بالـ”Homeostasis” (الاستقرار الداخلي)، والتي تُبقي الوظائف في حالة توازن ديناميكي. لكن في الأنظمة السياسية المريضة، يتحول هذا التوازن إلى ثبات مَرَضي، أشبه بجسد يتأقلم مع ورم سرطاني ويمنع أي محاولة لاستئصاله. هنا تظهر أعراض خادعة: استقرار، أمن، تماسك، لكنها جميعًا أعراض لموت سريري بطيء.
ولأن الجسم يخشى الفوضى، فإن النظام يستخدم أدوات التغذية الراجعة (Feedback Loops) لمنع أي اضطراب يهدد “التوازن المَرَضي”. الإعلام يفرز مواد مهدئة، التعليم يلقّن الطاعة، والدين الرسمي يثبّت الخوف، تمامًا كما يُنتج الجسم هرمونات تثبط الألم رغم انتشار المرض.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا النوع من الانهيار البيولوجي الداخلي في قصة فرعون، حيث لم يكن استبداده استثناءً، بل نتاج بيئة سَمِحت له بالنمو:
“إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعًا…”
فالخلل الأخلاقي في جسم المجتمع هو ما سمح بانتشار هذا الورم، لا العكس.
ومن منظور علم وظائف الأعضاء، لا يتغير الجسد إلا إذا حرّكت خلاياه نفسها. وإذا بقيت ساكنة، فإنها تموت بالضمور، أو تتحول إلى خلايا ميتة وظيفيًا. وهنا يظهر مفهوم “القصور الذاتي الجمعي”، حيث لا توجد “خلايا حرّة” قادرة على إطلاق استجابة مناعية فعالة.
وقد وصف القرآن هذه الحالة بكلمات بليغة: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”، أي أن التغيير لا يأتي من خارج الجسد، بل من تحوّل في شفرته الداخلية، من داخل كل خلية، من كل فرد.
فالجسد الذي يعجز عن طرد الخلل، هو جسد مهيأ للانهيار. لكنه لا ينهار فجأة، بل يذبل من الداخل، حتى تنفجر أعضاؤه في لحظة حرجة.
كما في قوله تعالى:
“فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون” وهذا أشبه بجسمٍ انهار جهازه العصبي، ففقد الشعور، ثم القدرة، ثم الحياة.
فلا يكفي سقوط “ورم الطاغية” ما دام الجسم يفرز نفس الإنزيمات، ويحمل نفس الجينات المريضة. لا بد من “تحفيز الجين الأخلاقي”، وتحريك الخلايا الساكنة، وضخ إنزيمات جديدة في سلوك التفكير والقيم.
في علم الأحياء، يقال إن الجسد لا يُشفى إلا إذا “أُعيد ضبط الجينات” (genetic reprogramming)، تمامًا كما أن النظام السياسي لا يتغير إلا إذا تغيرت البنية النفسية والاجتماعية للناس.
وقد لخّص القرآن هذا التحول في معادلة خالدة: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” وهي ليست فقط دعوة إيمانية، بل قانون بيولوجي، وديناميكية داخلية، ونظام حماية ذاتي.
في الخلاصة:
الطغيان ليس فيروسًا عابرًا، بل خلل في جهاز المناعة الجمعي.
والشعب، إذا لم يستعد حيويته، يبقى نسيجًا ميتًا.
والحرية؟ ليست نداء عاطفيًا، بل شيفرة داخلية، ومن لا يعيد برمجة خلاياه… يبقى في الشَبَك البيولوجي إلى الأبد.
كاتب اردني