إشارات الحرب تلوح في الأفق: العاصفة الدبلوماسية الهندية تجر المنطقة نحو المجهول

الدكتور وائل عواد
في مشهد يعيد إلى الأذهان أكثر لحظات التوتر خطورة في تاريخ جنوب آسيا، تتصاعد العاصفة الدبلوماسية بين الهند وباكستان بوتيرة غير مسبوقة، وسط تبادل الاتهامات، والتلويح بورقة الردع، وقرع غير معلن لطبول الحرب. فالأزمة التي بدأت بتصريحات نارية ومواقف عدائية في المحافل الدولية، أخذت منحًى تصعيديًا ينذر بتحول المواجهة السياسية إلى صراع مفتوح، في منطقة مثقلة العداوات التاريخية، ومسلحة بترسانات نووية.
الهند، التي تبنّت نبرة أكثر تشددًا في تعاملها مع الملف الباكستاني، تبدو وكأنها تهيئ الرأي العام الداخلي والخارجي لمرحلة جديدة من المواجهة، ليس فقط على الصعيد الدبلوماسي، بل ربما أبعد من ذلك. في المقابل، تراقب إسلام آباد المشهد بحذر، وتصدر إشارات توحي بأنها لن تبقى مكتوفة الأيدي أمام أي محاولة لفرض الأمر الواقع.
فهل ما نشهده اليوم هو مجرد عاصفة سياسية عابرة؟ أم أن المنطقة تقف بالفعل على حافة “تسونامي” جيوسياسي قد يُشعل نارًا لا تُطفأ بسهولة؟
أولًا: الهند تُصعّد وتبني جبهة دبلوماسية عابرة للقارات
ضمن سياسة هجومية متصاعدة، أطلقت نيودلهي حملة دبلوماسية منظمة ضد باكستان، تجاوزت حدود التصريحات المحلية، لتتحول إلى تحرك عالمي ممنهج عبر وفود رسمية تجوب العواصم، وتحشد المواقف ضد إسلام آباد.
تعمل الهند على تقديم باكستان كدولة “راعية للإرهاب”، وتدعو المجتمع الدولي إلى إعادة النظر في علاقاته معها. وتُركّز هذه الحملة على ما تسميه “فشل باكستان المزمن” في اجتثاث البنية التحتية للجماعات الإرهابية، خصوصًا تلك النشطة في إقليم كشمير، أو المرتبطة بهجمات سابقة ضد أهداف هندية.
ووفق مصادر حكومية هندية، فإن نيودلهي تضغط حاليًا لإعادة إدراج باكستان في القائمة الرمادية لمجموعة العمل المالي الدولية (FATF)، متهمةً إياها بعدم الامتثال الكامل للمعايير الدولية الخاصة بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. وإذا نجحت هذه المساعي، فستُعيد باكستان إلى دائرة الشك والضغط الاقتصادي، في وقت تعاني فيه من أزمات داخلية خانقة.
ثانيًا: صيف ساخن قيد الإعداد
التحركات الهندية لا تأتي في فراغ، بل تعكس تخطيطًا استراتيجيًا لما وصفه مراقبون بـ”صيف ساخن” مع باكستان. إذ تُشير وتيرة الحشد الدبلوماسي إلى أن نيودلهي تسعى لتأمين غطاء دولي لتحركات محتملة على الأرض أو في ملف كشمير، وقد تُوظف الزخم الدولي الناتج عن حملتها لتبرير أي إجراء قادم.
التكتيك الهندي يقوم على تهيئة الأجواء لعزل باكستان، ووضعها مجددًا في خانة الدول المارقة أو الداعمة للإرهاب، مما قد يبرر لاحقًا خطوات عقابية أو حتى عمليات عسكرية محدودة تحت ذريعة “الدفاع المشروع” أو “الرد الوقائي”.
ثالثًا: باكستان تردّ وتلوّح بخياراتها
في المقابل، لم تقف باكستان موقف المتفرج، إذ سارعت إلى نفي الاتهامات والتنديد بالحملة الهندية، ووصفتها بأنها جزء من سياسة هندية ممنهجة لزعزعة استقرار المنطقة وتصفية القضية الكشميرية.
وأكدت وزارة الخارجية الباكستانية أن البلاد قد نفّذت إصلاحات جوهرية ضمن إطار FATF، وأن التقارير السابقة أشادت بالتقدم الذي أحرزته. إلا أن دوائر القرار في إسلام آباد تعي أن المعركة هذه المرة مختلفة، وقد تحمل أهدافًا استراتيجية بعيدة المدى، تتجاوز مجرد تشويه الصورة الدولية.
مصادر باكستانية مطّلعة لمحت إلى أن الرد قد لا يكون دبلوماسيًا فقط، بل ربما يشمل تحريك ملفات حقوقية دولية ضد الهند تتعلق بالوضع في كشمير، أو حتى التصعيد الميداني المحدود في حال لمسوا تهديدًا حقيقيًا للأمن القومي أو تجاوزًا للخطوط الحمراء.
رابعًا: السيناريوهات المحتملة — هل يقع الانفجار؟
في ضوء التطورات المتسارعة، يبدو أن جنوب آسيا أمام ثلاثة مسارات محتملة:
تصعيد دبلوماسي مضبوط يبقى في حدود المعارك السياسية والاقتصادية، مع استمرار الحملات المضادة بين الجانبين في المحافل الدولية دون تحوّل فعلي إلى نزاع مفتوح.
صدام محدود في كشمير أو على طول خط السيطرة، كرد فعل مباشر على استفزاز سياسي أو عملية ميدانية، مع حرص الطرفين على إبقاء التوتر تحت السيطرة تجنبًا لتدويله أو انفجاره.
الانزلاق الكبير، وهو السيناريو الأخطر، وهو الأكثر ترجيحًا في المدى القريب ،حيث يؤدي تراكم الضغوط وغياب الوساطات الفاعلة إلى انفجار عسكري واسع، قد يتدرج من مواجهة تقليدية إلى أزمة نووية، لا سيما في ظل التصعيد الإعلامي الداخلي في كلا البلدين، واستثمار التوترات لتغطية أزمات داخلية مزمنة.
الخاتمة: لحظة الحقيقة تقترب
ما يجري اليوم ليس مجرد مواجهة سياسية عابرة، بل هو تجلٍّ لفصل جديد من صراع عميق ومستمر بين قوتين نوويتين تتقاطع مصالحهما الجيوسياسية، وتصطدم هوياتهما القومية، وتتناقض رواياتهما التاريخية والاستراتيجية. ومع كل حملة دبلوماسية تتكثف، وكل اتهام متبادل يتصاعد، وكل تحرّك عسكري أو أمني على الحدود، يضيق هامش المناورة، وتتراجع مساحات التهدئة، وتقترب المنطقة أكثر فأكثر من لحظة الحقيقة التي قد تُفرض فيها الخيارات بالقوة لا بالدبلوماسية.
الهند، التي باتت ترى في اللحظة الراهنة فرصة لإعادة تشكيل المعادلة الإقليمية، تتسلح برغبة سياسية جامحة، وإسناد شعبي داخلي، وتحالفات دولية ناشئة، لتوجيه ضربة شاملة إلى باكستان على المستويات كافة — دبلوماسيًا واقتصاديًا وحتى عسكريًا. فقد عمدت نيودلهي إلى حشد الجبهة الداخلية وتوحيد الأحزاب السياسية الكبرى خلف خطاب تصعيدي واحد، ثم انطلقت وفودها الرسمية في جولات دولية منظمة شملت عواصم القرار الكبرى، بما فيها أعضاء مجلس الأمن الدائمين، لعرض ما وصفته بـ”أدلة دامغة” على دعم إسلام آباد للإرهاب العابر للحدود.
وبحسب الرواية الهندية، فإن الخطر الذي تمثله باكستان لا يهدد استقرار الهند أو جنوب آسيا فحسب، بل يمتد ليطال الأمن والسلم الدوليين، وهو خطاب تسعى الهند من خلاله إلى تجييش الرأي العام العالمي، واستقطاب دعم دولي لتصعيد محتمل ضد باكستان، سواء عبر الضغط الدبلوماسي أو العقوبات الاقتصادية أو — كما يلمح بعض المحللين — عبر عملية عسكرية محدودة أو واسعة النطاق خلال صيف هذا العام.
من جهتها، تجد باكستان نفسها أمام معادلة وجودية تتجاوز الرد السياسي والإعلامي، إذ باتت في موقع الدفاع عن شرعيتها الدولية وموقفها من قضايا الإرهاب، في ظل بيئة دولية متغيرة لا تحتمل الغموض أو الحياد.
وهنا تتجلى المعضلة: هل ينجح المجتمع الدولي، وبخاصة القوى الكبرى، في لعب دور الوسيط لإعادة النزاع إلى طاولة الحوار قبل أن تتدهور الأمور نحو مواجهة مباشرة؟ أم أن منطق التصعيد سيفرض نفسه، وتتحول العاصفة الدبلوماسية إلى تسونامي جيوسياسي قد يخرج عن السيطرة؟
اللحظة اليوم لا تحتمل التسويف، والقرارات المتخذة في الأسابيع المقبلة قد ترسم مستقبل المنطقة لعقود قادمة. لذلك، فإن ما تحتاجه جنوب آسيا ليس مزيدًا من العسكرة والاستقطاب، بل مبادرة شجاعة تُعيد الاعتبار للدبلوماسية الوقائية.
فهل سينجح العقلاء في كبح جماح التصعيد وتجنب الكارثة ؟ أم أن العاصفة ستشتد حتى تتحول إلى تسونامي لا يرحم أحدًا؟
كاتب صحفي -مستشار مميز في مؤسسة تيليتوما للدراسات الاستراتيجية
www.waielawwad,com