حسن لمين: العاصفة

حسن لمين: العاصفة

 

 

حسن لمين

 كان يومًا ممطرًا شديد البرودة، وأزيز العواصف يهدر في كل مكان، يصفع النوافذ، ويخلع أبوابًا، ويقذف الأغصان الميتة في السماء كأنها طيور مذعورة. يومٌ غضبت فيه الطبيعة غضبًا شديدًا، حتى خيّل للناس أن الجبال ستتحرك من مواضعها.
في كوخه القصديري المهترئ عند أطراف الغابة، كان الشيخ “التهامي” يحتمي بلحافٍ صوفيّ رثّ، يتكئ على وسادة من صوف الماعز، بينما عيناه المطفأتان بالسنين تحدقان في شعلة نارٍ صغيرة تتراقص وسط كانون من الطين. بدا الكوخ كزورق صغير في بحرٍ هائج.
غير أن العاصفة لم تكن وحدها من ستقتحم هذا الليل الطويل.
 عند منتصف الليل، سُمع طرقٌ خفيف على الباب. طرقٌ لا يتحدى الريح، بل يتسلل من بين شقوقها كأنما يخشى لفت الانتباه. ارتجفت يد التهامي وهو يرفع الغطاء، وتوجه بخطى متثاقلة نحو الباب. من يجرؤ على القدوم في مثل هذا الطقس؟
فتح الباب، وإذا بظلٍ لرجلٍ ينهار بين يديه. كان غارقًا في الدم، ووشاحٌ مبلل يخفي ملامحه.
 أدخله الشيخ بعجلة، وأسنده إلى جدار الطين. حاول إسعافه بما استطاع: ماء دافئ، قليل من الأعشاب، وهمهمات بالدعاء. وبعد دقائق، فتح الغريب عينيه… ونطق بكلمات متقطعة:
– “لا… تدعهم… يجدونني…”
– “من؟ من أنت؟ وماذا حدث؟”
لم يجب. أغمض عينيه، وراح في غيبوبة.
لكن الشيخ لم يكن بحاجة لشرح. كان يعرف جيدًا أنّ هذا الرجل هارب… وأن مصيره، إن لم يكن الموت، فشيء أقسى.
     في اليوم التالي، ومع أول ضوء شاحب للشمس، كان الكوخ محاصرًا. رجال ببزات سوداء، وأعين لا تعرف الرحمة، يطرقون الباب.
“رأينا آثار أقدام هنا، لا بد أنه مرّ من هذا المكان”، قال أحدهم بلهجة لا تحتمل الجدل.
الشيخ التهامي وقف بشموخ، رغم انحناءة ظهره:
– “ما شفت حد. هذه ليلة ما يطلع فيها كلب من جحره.”
لكنهم لم يصدقوه. بدأوا بتفتيش الكوخ، قلبوا الأغطية، طرقوا على الجدران، حتى الكانون نبشوه.
وفيما هم على وشك المغادرة، سعل الغريب من خلف الحائط الطيني.
تجمد الزمن.
     نظر قائد الفرقة إلى الشيخ نظرة فاحصة. ثم أمر رجاله بالصمت التام. أصغوا جميعًا… وسُمع السعال مرة أخرى، أوضح هذه المرة، كطعنة خرقاء في قلب الصمت.
أمر القائد بركل الحائط الطيني.
      تهشمت الجهة الخلفية من الكوخ، وظهر الغريب، يتكئ على حافة خفية خلف أكياس القش والخشب. كان نصف وجهه متورمًا، والدم الجاف على قميصه يروي فصلاً من العنف عاشه الليلة الماضية.
– “قبضنا عليه !” صرخ أحدهم.
     اندفعوا نحوه، واحدا تلو الآخر، بينما الشيخ التهامي يراقب المشهد بعينين تذوب فيهما الحكمة بالعجز. وقبل أن يُسحب الرجل تمامًا خارج الكوخ، أمسك التهامي بكمّ أحد الجنود، وقال:
– “من هذا؟ ولماذا تطاردونه؟”
أجابه القائد بخشونة:
– “مطلوب بتهمٍ تمس أمن الدولة. جاسوس، ومهرب وثائق، ورجل خطر.”
ثم نظر للشيخ بازدراء:
– “وأنت، سنراك لاحقًا في المخفر. لا أحد يُخفي مجرمًا دون أن يُحاسب.”
     رحلوا وسط العاصفة، كما جاءوا، تاركين خلفهم بابًا مخلوعًا وأرضية مبللة بالوحل والدم.
جلس الشيخ أمام النار، وهو يقلب كفيه فوق اللهب.
مرّت أيام.
     استُدعي الشيخ التهامي للمخفر، وتلقى سلسلة من الاستجوابات، كانت أغلبها تهديدًا مبطنًا بالعقاب. لكنه خرج دون تهمة واضحة. لا دليل لديه، سوى رجلٍ انهار بين يديه في ليلة عاصفة، ولم يسأله عن اسمه.
     عاد إلى كوخه، لكن صمت المكان لم يعد كما كان. الأحلام التي كان يراها في نومه تغيّرت. صار يرى وجوهًا تُسحب بالقوة، وأكفًا تطلب النجدة. لم يعد يستطيع أن ينام أكثر من ساعات قليلة. ذات ليلة، وبينما هو يشعل النار، سمع طرقًا خفيفًا على الباب.
تجمد قلبه.
فتح ببطء، فإذا بصبيّ في الثانية عشرة من عمره، يحمل رسالة.
ناولها له دون أن ينطق، ثم جرى واختفى بين الأشجار.
فتحها الشيخ بيدين مرتجفتين، فقرأ:
“كنتُ بريئًا. لم أهرب من العدالة، بل منها. كنت أحاول فضح خيانة كبرى داخل جهاز الدولة. أردتُ أن أُوصل الحقيقة. شكراً لأنك لم تسلّمني حين كنتَ تستطيع. في يوم ما، ستُروى قصتك وقصتي في الكتب… إن كُتب للحق أن يعود.”
وقع الرسالة: يوسف المدني
     في تلك الليلة، لم يشعل الشيخ التهامي النار.
بل أشعل شمعة، وكتب أول سطر في دفتره القديم:
“في ليلة عاصفة، طرق بابي رجلٌ طاردته الدولة واحتواه القلب…”
ثم ابتسم، وأغلق الدفتر، ونام لأول مرة دون كوابيس.