خليل الشوا: في صميم العاصفة: الإخوان المسلمون، القومية العربية وصراع المصير

خليل الشوا
لم يكن القرن العشرون مجرد منعطف تاريخي بل كان ساحة كبرى لصراع الرؤى وتشكيل المصائر في العالم العربي وبين ركام الحروب ونهايات الإمبراطوريات ظهرت حركتان فكريتان وسياسيتان حملتا وعودا كبرى بالنهضة والخلاص جماعة الاخوان المسلمين من جهة والحركة القومية العربية من جهة أخرى. ظهر الاخوان في مصر عام 1928 على يد حسن البنا وسط فراغ روحي وسياسي أعقب سقوط الخلافة العثمانية وأزمات الهوية التي خلفها الاستعمارفي النفوس والمجتمعات بينما برزت القومية العربية لاحقا بعد عقدين تقريبا من النكبة في خمسينيات القرن العشرين من رحم الجامعة الأمريكية في بيروت حيث تفاعلت النخبة العربية مع أفكار الحداثة الغربية وحلم الوحدة والتحرر.
كان الفرق بين التأسيسين أكثر من مجرد زمن كان تعبيرا عن اختلاف في نوع السؤال الذي أراد كل تيار أن يجيب عنه أراد الاخوان أن يعيدوا الدين إلى قلب السياسة والمجتمع بينما أراد القوميون أن يعيدوا صياغة مفهوم الأمة خارج إطار الدين والطائفة على أساس اللغة والتاريخ والمصير المشترك.
الا ان ما يجب التوقف عنده اليوم ليس فقط ما قدمته هذه الحركات بل ما خلفته من آثار وتداعيات لأننا حين نتأمل التجربة بعيون مفتوحة سنكتشف أن جزءا كبيرا من أزماتنا الحالية لم تكن بعيدة عن منطق التحزب والتخندق الذي زرعته هذه التيارات في الوعي العربي حتى بات الانتماء لحزب أو جماعة أهم من الانتماء للوطن وصار الولاء لفكرة ضيقة يعلو على كل ما سواها.
فالايمان المطلق بأن الاخوان يحملون وحدهم حقيقة الإسلام جعلهم يتصرفون وكأنهم أوصياء على الدين وملاك للحقيقة وهو ما دفعهم إلى تصنيف الآخر ورفض التعدد والتنوع حتى بين المسلمين أنفسهم وحين دخلوا المعترك السياسي لم يدخلوا بشراكة بل بسردية تقول إننا نحن الفضلاء وغيرنا جهلة أو فاسدون.
وفي المقابل لم تكن القومية العربية دائما أكثر تسامحا بل سقطت أحيانا في وهم العروبة الطهرانية وأقصت الأقليات وساهمت في عسكرة الدولة وتغول السلطة واستعارت خطابا انقلابيا لم ينجح في بناء نموذج ديمقراطي يحتضن كل أبنائه.
وبين هذين المشروعين ضاع الإنسان. نعم ضاع الإنسان كقيمة وكمواطن وكفاعل في بناء وطنه وتم اختزاله في أيديولوجيا وفي هوية واحدة بدل أن يحتفى بتنوعه وتم تغليب الانتماء الحزبي على الانتماء الوطني وتحول النقاش العام إلى سوق للمزايدات حول من هو الأكثر التزاما بالفكرة أو العقيدة لا حول من هو الأقدر على خدمة الناس وبناء الدولة.
وما زاد الطين بلة أن هذه التيارات بدل أن تتجاوز خلافاتها وتلتقي على أرضية مشتركة راحت تروج لأنصاف حقائق وتتبنى منطق الصراع لا التعايش فبات كل فريق يرى الآخر تهديدا لا شريكا وأصبحنا نعيش في أوطان منقسمة يتصارع فيها الخطاب لا يتكامل.
وهنا علينا أن نتوقف لحظة ونسأل سؤالا بسيطا لكنه مصيري. متى سنفهم أن التحزب والتخندق على أساس ديني أو أيديولوجي ليس سبيلا للنهضة بل وسيلة خطرة للتفرقة وشق الصف وأن من يروج لفكرة أن جماعته هي الأفضل أو الأحق إنما يزرع فتنة باسم الإيمان أو الهوية.
الإنسان هو الإنسان والمواطن هو حجر الأساس في أي مشروع وطني ناجح أما الشعوب فهي وحدها القادرة على إنتاج التغيير وبناء المستقبل. والحكام مهما اختلفنا معهم أو وافقناهم هم في النهاية شركاء لا أسياد والمجتمع لا يبنى بشعارات بل بشراكة حقيقية تقوم على الاحترام المتبادل والعمل المشترك. علينا أن نخرج من ثقافة الاصطفاف ونسأل أنفسنا هل نريد وطنا يجمعنا أم كيانات تتنازعنا هل نريد دولة مدنية عادلة تحترم الجميع أم سلطات تتجاذبها الولاءات والانتماءات.
النهضة لا تبنى بحزب ولا تتم باسم جماعة ولا تستورد من الخارج إنها مشروع جماعي يحتاج إلى عقول منفتحة وقلوب صادقة وإرادة شعبية لا تخاف من التعدد ولا تتهرب من الأسئلة الصعبة. لقد تعبنا من الانقسام من التنازع على الرموز والشعارات من تمجيد الماضي وتخوين الحاضر ما نحتاجه اليوم ليس انتماء جديدا بل تحررا من الانتماءات الضيقة ما نحتاجه ليس قائدا جديدا بل رؤية جديدة تحترم الإنسان وتصون الوطن وتضع المواطن قبل الحزب والكرامة قبل الخطاب.
ربما آن الأوان لأن نكف عن ترديد أنا فلان الفاضل المنتمي إلى الجماعة الصادقة ونبدأ بالقول أنا الإنسان أنا المواطن أنا الشريك في بناء وطن حر عادل لكل أبنائه.
كاتب وصحفي فلسطيني