د. نائلة تلس محاجنة: في عالم الأصوات العميقة… أحدثك من سكوني

د. نائلة تلس محاجنة: في عالم الأصوات العميقة… أحدثك من سكوني

د. نائلة تلس محاجنة
ثمة أصوات لا تُسمع، لأنها تسكن تحت الجلد، وتهمس في تجاويف الروح… وثمة كلمات لا تُقال، لأنها أثقل من أن تطفو على سطح الحلق، وأرقّ من أن تتحمّلها الريح. في عالمٍ يتنازع فيه الضجيج حقّ الوجود، أبدأ من آخر ما تبقّى لنا: الصمت.
لم يكن البدء ضوءًا ولا ظلالًا، لم يكن نبضًا ولا رجع صدى… كان البدء صمتًا، لا كَفراغٍ ينتظر الانبثاق، بل كحكمة كاملة لا تحتاج إلى صوتٍ كي تُقال. الصمت في أصله ليس سكوتًا، بل ولادة المعنى قبل أن يتحوّل إلى نُطق، هو أول نَفَسٍ نقيّ تأمّل ذاته في مرايا التكوين، ثم تنكّر للبداية حين خانته اللغة.
عبر سنواتي الأولى، لم أكن أدري أن الصمت هو الكتف التي تربّت عليّ حين لا أجد من يصغي. كان يرافقني إلى الزوايا، يندسُّ خلف الضحك، يهمس تحت الأغطية، يختبئ بين النظرات. كبرتُ وأنا أظنه خوفًا، ثم اكتشفت أنه أكثر وفاءً من كثير من الكلام. الصمت ليس نقيضًا للصوت، بل هو صوته العميق، الخفي، الذي لا يُقال لكنه يُفهم، هو ليس فراغًا… بل كثافة. ليس غيابًا… بل تمركز. ليس موتًا… بل حياةٌ تأخذ شكلاً آخر.
في طفولتي، لم أكن أدري أن الصمت كان يختبئ بين صفحات الكتب. كنت طفلةً لم تتجاوز الثالثة عشرة، أتسلل إلى عالم القراءة كمن يبحث عن ملاذٍ خلف الضجيج. كانت في بيتنا مكتبةٌ صغيرة، متواضعة في عدد كتبها، عظيمة في أثرها، تعهّدت بها أمي رغم أنها لم تعرف الحرف، لكنها كانت تؤمن بأن الكتاب ضوءٌ لا يُشترط أن يُقرأ كي يُنير. قرأتُ “بين القصرين” كما يُفتّش القلب الصغير عن صوتٍ دافئ في زقاق موحش، وبكيتُ مع “الشيخ والبحر” في قاربٍ من ورق، أُبحر فيه على ماء الخسارات الثقيلة، ووقفت على عتبات “في بيتنا رجل” حيث يتشابك الحبُّ بالخوف، وتهمس الثورة لي بلغةٍ لم أكن أفهمها، لكنني شعرت بها تتغلغل في صمتي.
“الكتب ليست مهربًا، بل بيتًا آخر نصنعه داخل أنفسنا” — مقولة استحضرتها لاحقًا، حين أدركت أن كل كتاب كنت أقرأه كان نافذة للصوت حين يغيب. كل كتابٍ من تلك الكتب كان صمتًا ناطقًا، كل شخصية مرآةً لارتباكي الداخلي. كنت أقرأ لأنني لا أقول، لأنني لا أجد من يصغي لي، فأصغيت للورق، للكلمات التي تتسلل من بين السطور كما يتفلت الاعتراف من بين الأضلع. هكذا علّمني الصمت أن أُصغي، لا لما يُقال، بل لما يُخفى عمّا يُقال.
أدركت لاحقًا أن الصمت ليس حالةً جامدة، ولا موقفًا محايدًا، بل كائنٌ حيّ، يتنفس ويتبدّل، له جلدٌ يتغير، وقلبٌ يخفق، ومزاجٌ يتقلب بين نور وظل. قد يأتيك الصمت نسمةً تُربّت عليك، وقد يعود إعصارًا يقتلع سكينتك، يسكن عينيك أحيانًا، ويفيض من أطراف أصابعك أحيانًا أخرى.
وفي مراحل لاحقة، صار الصمت لونًا. كانت الريشة لغتي، وكانت الألوان انفعالاتي التي لم تجد لسانًا. كل لوحة أرسمها كانت نَفَسًا صامتًا، يشبهني أكثر من أي جملة. الصمت يعرف كيف يحتل المساحات دون أن يزاحم، كيف يملأ الغرف دون أن يصدر صوتًا، كيف يعلمك أن تصغي لما فيك، لا لما حولك.
  أحيانًا، الصمت يغضب… لأنه يعرف أكثر مما يُقال. حين نقف أمام الظلم ولا تسعفنا اللغة، نختنق بالصمت. لكنه ليس هدوءًا، بل احتقان. هو رغبة مكبوتة في الصراخ، تصطدم بجدار الواقع أو بسياج الخوف. ذلك الغضب الصامت، احتجاج النبلاء، لا يحترق في الخارج، بل يحترق في الداخل. هو الرفض الذي لا يصرخ، لكنه لا يساوم. لطالما كان الصمت غضبي المقموع، حين يعجز المنطق عن فهم التناقضات، وحين تصافح المتناقضات بعضها، أقف في المنتصف… أصمت، لا خنوعًا، بل لأن التفكيك لم يعد مجديًا.” نزار قباني يقول “الصمت أحيانًا ضجيجٌ لا يستطيع العالم كله أن يفهمه”
 وأحيانًا، الصمت يبتسم… حين يتجاوز تافه الكلام. في لحظاتٍ يفيض فيها العالم بالكلمات الفارغة، المجاملات الرخيصة، والضوضاء التي تستهلك المعنى، يصبح الصمت أرفع من أن يبرّر أو يناقش. هو انتصار، لا انسحاب. هو طريقة راقية للقول: “لستُ معنيًا بهذه السطحية.” كنت أجلس أحيانًا وسط جموعٍ تتكلم كثيرًا، وأكتشف أنني لا أحتاج إلى أن أكون معهم كي أكون. ابتسامتي الصغيرة وصمتي المطمئن كانا كافيين لأشعر أنني أمتلك عالمًا داخليًا لا يُمس.
أحيانًا، الصمت يبكي… حين تخون الكلمات المشاعر. كم مرة أردنا أن نقول: “أنا موجوع”، “أنا مشتاق”، “أنا خائف”… لكننا خفنا من تهشيم اللحظة، من انتقاص الشعور، من خيانة العمق. حين يكون الألم أكبر من الترجمة، يبكي الصمت. تبكيه العيون، أو يتسرب عبر رعشة اليد، أو في انسحابٍ صامت من حضورٍ كان يبدو قويًا. أعرف هذا الصمت. عشته بين ثنايا السنين والايام واللحظات حين يحيطني الكثير بينما ظلال الوحدة تخيم على الروح، حين غابت الأذن، وصار الصمت صديقي الوحيد، يحتضنني كما لا تفعل الكلمات، يبكي معي دون أن يُحرجني، ينصت دون أن يقاطع، يصاحب دون أن يخذل.
وأحيانًا، الصمت يهدأ… حين يحتضن الحقيقة بلا حاجة إلى إعلانها. ليس كل ما نعرفه نحتاج أن نقوله، فبعض الحكم تستقر فينا ولا تحتاج للتحقق خارجنا. في لحظات الصفاء، حين تتصالح معك ومع فوضاك، حين تقف أمام البحر أو وجهٍ تحبه أو ذاتك العارية من كل قناع، تهدأ… وتصمت. ذلك الصمت ليس انسحابًا، بل رضا، مهيبٌ، كاتم. “كلما ارتفعت الروح، ازداد الصمت حضورًا” جبران خليل جبران. كثيرًا ما كنتُ أناجي في لحظات السكون فجرًا، لا لأطلب، بل للتسليم. كان الصمت حينها لغة عبادة خالصة، أرقى من الكلام، وأقرب إلى الروح من أي دعاء. هو صفاء يُعاش… لا يُقال.
الصمت لم يكن غيابًا عن اللغة، بل عودة خالصة إليها من أبوابها الخفية؛ إذ صار هو النصّ الذي لا يُكتب، والبلاغة التي تتجاوز المجاز، لأنه لا يحتاج إلى زخرفةٍ ليبلور المعنى، بل يمنحه شكله النقيّ قبل أن تلامسه العبارة. وكلما خانتني المفردة، ألوذ به… لا لأهرب، بل لأن هناك أصواتًا لا تُقال، وحقائق لا تُفسَّر، ومشاعر إن نُطقت تذبل، كزهور قُطفت قبل أوانها. في صمتي، كنت أكتب بلا حبر، وأُصغي إلى ما يهمس به داخلي، لأدرك أن الرسائل الأصدق لا تحتاج إلى حروف، بل إلى صدقٍ يصدر من العمق.
هناك، في فسحة الصمت، وجدت موطني حين جفّ الكلام، وملاذي حين خانتني العبارات. لم يكن الصمت حياديًا أبدًا، بل كان كينونتي الصافية؛ المساحة التي بلورت صدى صوتي دون جهد، وسمحت لي أن أكون، لا بشرح، بل بحضور خفيّ يتجلّى دون أن يُسمع.
وفي عالمٍ تتزاحم فيه الكلمات على المنابر، تعلّمت أن الصمت لا يطالب باعتراف، ولا يحتاج إلى شاهد، لأنه يعرف ذاته جيدًا، ويمنحني أناي الحقيقية. فهو لم يكن يومًا جدارًا أعبره إلى الخارج، بل بوابة أعبر بها إلى ذاتي. في كل مرة صمتُّ فيها، كنت أُضيء ناحية مظلمة في داخلي، أستعيد يقيني، وأُنصت إلى النبض الأول الذي سبق كل ضجيج.
لصمت لا يعلّق اللافتات، ولا يرفع الشعارات، لكنه يبني في الداخل معابد خفية للصدق والاتزان، ويعلّمني كيف أحتضن التناقض دون أن أنهار؛ كيف أكون الحزن والرضا في آن، الشكّ والإيمان، الوحدة والامتلاء، البكاء الصامت والسكينة العميقة. علّمني الصمت أن التناقض ليس عيبًا في الشعور، بل امتدادٌ له، وأن الإنسان لا يُختصر في قطب واحد، بل يتسع لتضاداته كما تتسع السماء لغيومها وشمسها معًا. ولأنه كان مرآتي حين غابت المرايا، وصوتي حين خذلتني الحروف، صار وطني الحقيقي؛ الوطن الذي لا يُحتلّ ولا يُباع، ولا يطلب جواز سفر.
ولهذا، في كل مرة اخترتُ الصمت، كنت أُراكِم المعنى في طبقات الروح، أكتبُ بنبضي أكثر مما يُكتب بالحبر، وأتكلمُ بصمتي أكثر مما يُقال في الخطب، وأحبّ كما لو أن الحب عصفورٌ لا يُنادى بصوت، بل يُرتّل في الأعماق برفرفة الروح، حبًّا لا يحتاج إلى إعلان، ولا يُقاس بالكلمات، حبًّا هشًّا في شكله، عظيمًا في صدقه، لا يجرؤ عليه المتكلمون، لأنه لا يُمنح إلا لمن يختبر المعنى بصمت.