محمد سعد عبد اللطيف: نساء في غياهب الذاكرة

محمد سعد عبد اللطيف: نساء في غياهب الذاكرة

 

 

 

محمد سعد عبد اللطيف
كنتُ أسمع عنها كثيرًا… “أم ياسمين  “، العجوز التي لا تزال تتحدث عن الحب كما لو كان موعدًا قريبًا لم يأتِ بعد، لا ذكرى غائرة في الزمن.
قالوا إنها تسكن بيتًا قديمًا على أطراف القرية، وسط بستانٍ جفّت ثماره، لكنها ما زالت تسقيه كل صباح كأنها تنتظر شيئًا أو أحدًا.

ذهبتُ إليها بدافع الفضول، أو ربما لأهرب من صخب القرية  وأحاديث السياسة، لأجد عندها حكاية ترويها الحياة في صوتٍ خافت.

فتحت لي الباب بنفسها، عجوز ترتدي جلبابًا مطرزًا بخيوط باهتة، لكنها أنيقة. تمشي ببطء، لكن بابتسامة لا تشبه الشيب ولا الوحدة.
قالت لي:
ـ تفضل يا ولدي… كنتُ أعدّ الشاي، كأنني شعرت أنك قادم.

دخلتُ وقد خالجني شعور غريب، كما لو أنني عبرت بوابة زمنية تعيدني إلى بدايات النقاء.
في صالة صغيرة امتلأت بصور قديمة وأزهار بلاستيكية، جلستْ قبالتي، ثم توجهت إلى المرآة.
وقفت أمامها طويلًا، وضعت أناملها على التجاعيد، ثم تمتمت:
ـ هذا الوجه كان يومًا زهرة… واليوم..؟ مجرد ورقة خريف.
لكن قلبي… آه قلبي، ما زال يناضل..!
ينبض بالحنين، بالحب الضائع وسط ركام الأيام.

بحثت عن جهاز التلفاز، فتحت قناة تبث أغنيات الزمن الجميل.
وما إن بدأت نجاة الصغيرة تغني: “أنا بستناك”، حتى بدأت تتمايل بحركات خفيفة، كأنها ترقص مع ظلٍّ قديم لا يزال يرافقها.
قالت بابتسامة شاحبة:
ـ الحب لا يموت، فقط يتخفّى خلف أعباء الحياة.
الحب لا يشيخ، نحن من نغادره تحت وقع الخوف والعادات وكلام الناس.

خرجنا نتمشى في الطريق الترابي  نحو الحقول.
كانت تشير إلى الأماكن كما تشير الأرملة إلى صور شهدائها:
ـ هنا التقينا… هناك بكيتُ أول مرة… وهنا وعدني أن يعود.

توقفت فجأة عند شجرةٍ هرمة وقالت:
ـ ليتنا نملك في حياتنا حق الإعادة… لحظة، شعور، ضحكة، أو حتى نظرة وداع.
لو كان بإمكاننا إعادة الحياة بأكملها، لفعلنا… وجعلنا الزمن يتوقف عند ما نريده.
لكننا كبرنا… ونضجنا… وفقدنا شيئًا من أنفسنا في كل محطة.

نظرت إليّ وقد ترقرقت الدموع في عينيها:
ـ لا أريد أن أكبر… أريد فقط أن أعود كما كنت.
وأن أُحبّ، كما أحببت.
وأن أرقص… ولو مرة أخيرة.

عدنا إلى البيت مع الغروب، والضوء المتسلل من النوافذ القديمة يلامس ملامحها كأن الزمن يودّعها برفق.
جلستْ في مقعدها قرب الراديو القديم، وقالت لي:
ـ كنت أكتب له رسائل كل عام في تاريخ لقائنا… ولم أرسلها أبدًا.
فتحت دُرجًا صغيرًا، وأخرجت كومة أوراق صفراء.
ناولَتني واحدة وقالت:
ـ خذ هذه… ربما تجد فيها ما لم أستطع قوله لنفسي.

كانت الرسالة الأخيرة، بخط يدٍ مرتجف:

“إلى من أحببتك حتى بعد أن نسيتني،
إن عدتَ يومًا ولم تجدني، فابحث عني في هذا البيت،
في أغنية قديمة، أو بين سطور رسالة لم تُرسل.
لا تحزن… كنتُ سعيدة بك، حتى وأنت بعيد.”

رفعت عيني لأحدثها… لكنها كانت قد أغلقت جفنيها في سكون مطمئن، كأنها أنهت آخر رقصة على مسرح الذكريات، وانسحبت في هدوء.

جلستُ بجوارها طويلًا، أشعر أنني لم أزر عجوزًا كما ظننت، بل زرتُ زمنًا نقيًا، حبًا صافيًا لم يفسده النسيان، وامرأةً أحبّت مرة… فعاشت ألف مرة.
وفي طريق عودتي، حملتُ الرسالة… وكأنني أحمل قلبها،،،!!

كاتب وباحث مصري
 [email protected]