د. خالد فتحي: أوبرا القاهرة… أو الفن الأصيل

د. خالد فتحي: أوبرا القاهرة… أو الفن الأصيل

 

د. خالد فتحي
لم يخطر ببالي أن يفاجئني صديقي المصري، الدكتور محمد شيرين، بهذه اللفتة الجميلة: حجز تذكرة لحضور حفل لأغاني أم كلثوم في دار الأوبرا المصرية. زرتُ القاهرة مرات عدّة، لكن لم يتسنَّ لي أن أدخل هذا الصرح الثقافي الذي طالما ارتبط في ذهني بزمنٍ جميل، زمن أم كلثوم وعبد الحليم ومحمد عبد الوهاب، وهم يشدون بأصواتهم أمام جمهور أنيق، في هندامه كما في ذائقته.
صحيح أن هذه ليست الأوبرا الخديوية التي أنشئت عام 1869 وسط القاهرة، فقد التهمتها النيران سنة 1971 ولم تُبنَ في موقعها مجددًا، بل نحن في دار الأوبرا الجديدة بالزمالك، لكنها تظل امتدادًا لتلك الروح، وتلك الهيبة. كنت أظن أن زمن الأوبرا قد انقضى، وأن بريقه خفت، لا سيما بعد أن اجتاحتنا أغانٍ عابرة، سريعة، تتكئ على الصورة لا على الصوت، على الإيقاع لا على الإبداع.
مررت مرارًا بتلك المنطقة، منطقة الجزيرة، التي تضم إلى جانب دار الأوبرا نادي الجزيرة وبرج العرب، لكني لم أدخلها من قبل. ربما لأني لم أكن أملك برنامج العروض، أو لأني ظننت أن دار الأوبرا لم تعد معنية بفن الطرب الأصيل. هذه المرة، أحسست بطاقة خفية تدعوني إليها. كنت أعدّ الساعات انتظارا لتلك الليلة. صديقي عرف كيف يشوّقني: قال إن نجمة الحفل ستكون المطربة المبدعة ريهام عبد الحكيم، وإنها، إلى جانب مي فاروق، من القلائل في العالم العربي القادرات على أداء أغاني أم كلثوم.
ذهبت للقاء صديقي عند بوابة دار الأوبرا في تمام التاسعة مساءً، الموعد المقرر للحفل، وكان قد جلب معه التذكرتين. في الحقيقة، قررت أن أصل قبل الموعد بوقت. من يستطيع مقاومة إغواء ليلةٍ من طرب أم كلثوم؟ حتى لو جاء صوتها هذه المرة على لسان مَن تتلمذن في مدرستها الفنية.
مشيت على قدميّ من شارع عبد الخالق ثروت، متنقلاً بين بعض المكتبات، إلى ميدان طلعت حرب، ثم إلى التحرير، حيث ركبت المترو من محطة أنور السادات. محطة واحدة فقط تفصلني عن محطة الأوبرا، لكن الفرق كان شاسعًا بين العالمين.
ما إن وصلت إلى البوابة، حتى بدت لي القاهرة مختلفة: سيارات فارهة تصطف في هدوء، سيدات وسادة في كامل أناقتهم، لا ربكة ولا صخب. الرجال جميعهم بربطات عنق، والسيدات بأزياء راقية، والكل يسير بنوع من السكينة، كأنما هم مقبلون على طقسٍ روحي. شعرت أني دخلت مكانًا مهيبًا، لا مجرد مسرح.
الجمهور كان خليطًا من المصريين والعرب، يشعّ من عيونهم توق دفين لذلك الفن الذي ينفذ إلى القلب. لم أعد أرى في الأوبرا مجرد معلم معماري، بل ذاكرة حيّة تتنفس تاريخًا ما زال حاضرًا.
“جمهور تلك الليلة كان مختلفًا. لم يكن جمهورًا يبحث عن صخب ولا عن استعراض، بل جمهور جاء ليستمع، ليتأمل، ليحس. في ملامحهم، مزيج من الحنين والانبهار. في صمتهم، توقير حقيقي للفن. حتى التصفيق، كان موزونًا، كأنه جزء من اللحن. شعرت أن هذا الجمهور، في صمته، يعبر عن مقاومة راقية لزمن الضجيج.
أول ما يستقبلك عند المدخل نصب لعبد الحليم حافظ، ثم تماثيل لأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، كأن المصريين أرادوا أن يقولوا: هذه دار الأوبرا، وهي على عهدها، وإن تغيّر الزمان والمكان.
حين تتأمل هذه الهامات الفنية، تدرك أن الأوبرا ليست قاعة تُعزف فيها موسيقى فحسب، بل معلم حضاري يحمل صدى قرن كامل من النهضة والطموح والحلم العربي الكبير.
قلت في نفسي: نعم، في مثل هذا المكان شدت أم كلثوم وغنّت للوطن والحب والعروبة. إنها ليست مجرد قاعة عروض، بل معبد ثقافي يقاوم النسيان، ويحفظ الرقي وسط ضجيج الانحدار الذي جرف كثيرًا من فننا العربي. شعرت وكأني انتقلت إلى زمن آخر، حيث الفن رسالة، والموسيقى دعوة للسمو.
“ربما تكون دار الأوبرا آخر الحصون التي تصرّ على البقاء وفية للفن الجميل في زمن تسارعت فيه كل الأشياء. إنها لا تقيم حفلات فحسب، بل تؤدي دور الحارس الصامت لذاكرة الفن. في كل ركن منها، يهمس التاريخ: هنا غنّت كوكب الشرق، هنا صفق الناس للجمال، هنا لم تُخن الأصالة.
ليلة الطرب بدأت كما ينبغي لها أن تبدأ. أدّت ريهام عبد الحكيم، إلى جانب حنان الخولي ورحاب عمر، مختارات من روائع كوكب الشرق. لم يكن ما قدمته الفنانات الثلاث تقليدًا، بل إحياءً صادقًا لروحٍ فنية عظيمة. بصوتهن الرخيم، وإحساسهن العالي، استحضرن لنا زمنًا لا يزال حيًّا رغم تقلب الأيام.
جلست في القاعة الكبيرة، وأنا أشعر بأني عبرت، بلحظة، إلى زمن أم كلثوم. الأضواء خافتة، الجمهور ساكن، الفرقة الموسيقية تستعد خلف الستار، الكل يتهيأ، كأنما نحن مقبلون على طقسٍ مقدّس. غنّت حنان الخولي أولاً، فأبدعت بـ”غني لي شوية شوية” و”بعيد عنك”، بصوتها الدافئ المشبع بالحس العاطفي.
تلتها رحاب عمر، التي غنّت “حقابله بكرة” و”حيّرت قلبي معاك”، هذه الأغنية التي كتبها أحمد رامي ولحّنها رياض السنباطي، وغنّتها أم كلثوم في 1951، فصارت من علامات الطرب الأصيل. شعرت وأنا أسمعها أن المدرسة الكلاسيكية لم تندثر، وأن مصر ما زالت تنجب من يتنفس الفن الحقيقي.
لم تكن الفنانتان تقلدان أم كلثوم، بل تسيران على هديها، تستكملان الطريق دون أن تتجاسرا على قدسية الأصل. نعم، محاكاة أم كلثوم ضرب من المستحيل، لكنها تظل بوصلتهم وملهمتهم.
الفرقة الموسيقية قادها المايسترو الدكتور محمد الموجي، ابن الموسيقار الكبير محمد الموجي، في إشارة رمزية جميلة: الابن يعيد بأوتاره ما لحّنه الأب لكوكب الشرق، في حفل أُقيم بمناسبة مرور خمسين عامًا على رحيلها. كأن كل شيء في تلك الليلة نُسّق ليعيدنا إلى تلك الحقبة الذهبية.
بعد استراحة قصيرة، أطلت نجمة الحفل: ريهام عبد الحكيم. وما إن صدح صوتها حتى تماهى معها الجمهور، يردد المقاطع دون أن يطغى، يتناغم معها كما لو كان كورسًا تلقائيًا يحفظ التفاصيل عن ظهر قلب.
غنّت “افرح يا قلبي”، “رق الحبيب”، “سيرة الحب”، “ألف ليلة وليلة”، و”أنت عمري”، بكل إحساس واحترام. لم تكن تستعرض، بل تغني بشغف واحتراف، محتفية بالكلمة والنغمة، والجمهور معها كأنه في حالة طرب صوفي، يفنى في الموسيقى.
حين تغني امرأة كأم كلثوم، فإنها لا تمثّل صوتًا فنيًا فقط، بل تعبّر عن وجدان نساء جيلٍ كامل. كانت تُغنّي الحُب، والفقد، والكرامة، والاشتياق، وتجعلك تؤمن أن للمرأة صوتًا لا يقل بهاءً عن أي منجز تاريخي. وريهام عبد الحكيم، بطريقة ما، تحمل هذه الشعلة. كانت هناك أنوثة راقية في وقفتها، قوة هادئة في أدائها، واستعادة مهيبة لصوت المرأة الذي يطرب دون أن يتنازل، ويتألق دون أن يتصنّع.
حين غنّت ريهام ‘أنت عمري’، شعرت وكأنها توجهها إليّ وحدي. هذه الأغنية تحديدًا كانت تصاحبني في كل أسفاري، لكنها لم تكن يومًا بهذا القرب، بهذا النقاء، بهذا الاتساع. وجدت نفسي أُردّد: ‘رجّعوني عنيك لأيامي اللي راحوا’ وكأنني أستعيد شيئًا فُقد من داخلي، شيئًا لم أعرف أني افتقدته حتى تلك اللحظة.”
صورت بعض المقاطع، ورحت أرددها، وأنا الذي لا أغني عادة! ماذا فعلت بي هذه الليلة؟ أخرجتني من تحفظي، وأيقظت في داخلي إحساسًا بأن الفن الرفيع ما زال ممكنًا، ما دام هناك من يغنيه بإيمان.
كنت أتابع الحفل مشدوهًا، مأخوذًا بروعة المكان، وأصالة الطرب، وأنا أردد مع المطربات الثلاث أغلب المقاطع التي اكتشفت فجأة أني أحفظها منذ زمن. كانت لحظات استثنائية لا تُنسى. صورتُ بالفيديو تلك المقاطع وأرسلت بعضها لمن أحبّ أستنفر غبطتهم لي ، بينما نبّهني صديقي إلى أن أعيش اللحظة وأدع الهاتف جانبًا. لكني فعلت الأمرين: أُصوّر وأستلذّ، أُوثّق وأتأمل.
في تلك اللحظة، لم أكن فقط أستمتع بالحفل، بل كنت أُفكّر في معنى أن أكون هناك، كيف اجتمعت كل تلك الصدف لأكون شاهدًا على هذه الليلة العجيبة. كان من المفترض أن يحضر صديقي الدكتور إسماعيل من ليبيا، هو المهووس بأم كلثوم، لكن ظروفًا قاهرة حالت دون حضوره. حين علم صديقي الدكتور شيرين أنني سأكون في القاهرة في طريق عودتي من العراق إلى المغرب لحضور مؤتمر طبي، تدبّر لي دعوة بصعوبة، إذ كانت التذاكر قد نفدت تمامًا.
كنت أتمنى أن يحضر إسماعيل معنا، فهو لا يملّ من الحديث عن أم كلثوم، ويعيش أغانيها وكأنها كُتبت له وحده. أذكر آخر زيارة له للمغرب، حيث ذهبنا سويًا في الليلة التي سبقت مغادرته إلى حيّ الأوداية المطلّ على البحر. عدنا على الأقدام وهو يغني أم كلثوم من قلبه، يقول إن سحر الرباط لا يكتمل عنده إلا حين تقترن بالاستماع لها.
يا لهذه الدار، ويا لعجيبة تأثيرها! كيف أيقظت فيّ كل هذا الشجن؟ كيف جمعت ذكرياتي وهواجسي في لحظة واحدة، وجعلتني أعيد ترتيب ما كنت أظنه منسيًا؟
دار الأوبرا في تلك الليلة لم تكن مجرد فضاء للغناء، بل كانت مضيفًا للذاكرة، ومقامًا للحنين، وعنوانًا لحلمٍ ثقافي لم يندثر. بدا لي وكأنني في حضرة الروّاد: أم كلثوم، عبد الوهاب، عبد الحليم، لكن أيضًا طه حسين، والعقاد، وغيرهم ممن صنعت بهم مصر عصرها الذهبي.
صحيح أن النهضة التي حلم بها ذلك الجيل لم تكتمل، وربما أُجهضت، لكن مجرد أن ترى هذا الجمهور، بهذا العدد، بهذا الأدب، بهذا الشوق، يملأ قاعة الأوبرا لسماع أغاني أم كلثوم، تدرك أن شيئًا في وجداننا لا يزال حيًا، لم يندثر ولم يُمحَ.
فهمت حينها أن أم كلثوم لم تكن فقط صوتًا عذبًا، ولا مجرد “أسطورة غنائية”، بل كانت تجسيدًا لفكرة نهضوية، لرؤية فنية تؤمن بأن الفن رسالة، وبأن الأغنية يمكن أن تكون معبرًا نحو الهوية والانتماء.
كانت الأوبرا عنوانًا لذلك المشروع الكبير: تلاقٍ نادر للفكر والفن والسياسة. في قلبها، كانت أم كلثوم، سيدة المنديل، التي بصوتها وحده، دون سلاح ولا خطاب، وحّدت العرب. لم يكن أحد يختلف عليها، لا في بغداد، ولا في الرباط، ولا في القاهرة أو عمّان أو المنامة. كانت “ست الكل” حقًا، في زمن كان الكل يبحث عن رمز يتوحد حوله.
إن أغاني أم كلثوم ليست مجرد طربٍ أو كلمات تُغنّى، بل هي خيوط تمتد في نسيج ذاكرتنا الجماعية كعرب. لكلٍ منّا أغنية ترتبط بذكرى: حب أول، فقد، انتصار، أو مساء صيفي على سطح بيت قديم. وحين تُغنّى اليوم، فإنها لا تُستعاد فقط، بل تُبعث فينا من جديد، كأن الزمان يدور دورته ليرجع بنا إلى تلك اللحظات المعلّقة في القلب.
في زمن الانقلابات والانقسامات، كانت هي الثابت، الراسخة، الوطن المشترك. غنّت للمحبين والمغتربين، للمناضلين والمتعبين، فضمّتنا أغنياتها جميعًا، وأقنعتنا، ولو لحظة، أن الفن قد يكون الوطن حين يتفرق الوطن.
وجدتني فجأة أتساءل: ما بين زمن أم كلثوم واليوم، هل ما زالت الموسيقى قادرة على أن تكون لنا وطنًا؟ هل لا تزال تملك تلك القدرة العجيبة على التوحيد؟
حين أقارن بين تلك المرحلة والمشهد الموسيقي العربي المعاصر، تبدو لي الهوة شاسعة. ليست فقط في الأصوات أو الكلمات، بل في قيمة الفن ذاته.
في زمن أم كلثوم، كانت الأغنية مشروعًا متكاملًا: الشاعر يكتب وهو يعلم أن كلماته ستخلّد، والملحن يشحذ وجدانه لينحت الجملة الموسيقية كما ينحت تمثالًا خالدًا، والمطرب يتأهب للغناء كما يتأهب لمحفل مقدّس.
أما اليوم، فالأغنية تُنتج بسرعة، وتُستهلك بسرعة أكبر. الكلمات مكررة، الألحان مهجّنة أو مستوردة، والأصوات تُصنع بتقنيات، لا بموهبة. لم تعد الأغنية تُبنى، بل تُركّب. لم تعد تُسمع، بل تُستخدم. الأغنية التي “تشتغل على التيك توك” هي التي تحظى بالاهتمام، لا التي تعيش في الذاكرة.
ومع ذلك، هناك ما يستحق التوقف عنده. تلك الليلة في الأوبرا، ما شاهدته وسمعته من ريهام عبد الحكيم، ومن حنان الخولي، ورحاب عمر، كان فعل مقاومة. كنّ يُغنين بإيمان، بإحساس، بشغفٍ نقي، وكأنهنّ يقلن: لم يمت الفن بعد.
استشففت من أدائهنّ، ومن احترامهن للكلمة واللحن والجمهور، أن الغناء الحقيقي ليس صوتًا فقط، بل وعي، وذوق، ورسالة. أدركت أن الفن الرفيع لا يحتاج صراخًا كي يُسمع، بل يحتاج إلى الصدق، وهذا ما كان.
الفرق الجوهري، في رأيي، هو موقع الفن داخل المجتمع.
في زمن أم كلثوم، كانت الأغنية تشارك في تشكيل الوعي. كانت “الأطلال” و”مصر تتحدث عن نفسها” نصوصًا مفتوحة على الوطن، على الكرامة، على الحلم. كان الفن متحالفًا مع النهضة، لا منسلخًا عنها.
اليوم، يبدو وكأنه مهرب منها، أو ضدها. لكنه، مع ذلك، لا يموت. يضعف، يتوارى، يُهمّش… لكنه لا يموت.
إن كان الحفل في تلك الليلة قد علّمني شيئًا، فهو أن الفن حين يكون صادقًا، قادر على البقاء، بل على الشفاء.
كانت ريهام، بصوتها وحضورها، تقول لنا: ليس علينا أن ننسى، ولا أن نستسلم. الفن الحقيقي قد يغيب، لكنه لا يُمحى.
أم كلثوم، وحدها، كانت كافية لتصنع مجدًا فنيًا وروحيًا وثقافيًا.
فكم نحتاج اليوم من “أم كلثوم” جديدة؟
لا بالضرورة في الصوت، بل في الالتزام، في الوعي، في الإيمان بأن الفن يمكن أن يكون وطنًا.
في زمن أصبح فيه الغناء عابرًا وسريعًا، كانت أوبرا القاهرة في تلك الليلة تذكيرًا بأن الفن لا يزال قادرًا على أن يسمو، ويصنع وجدانًا، ويجمّل الحياة.
وها أنا أعود من تلك الليلة، محمّلًا بصدى أغنية، ووهج ذاكرة، ويقين لا يخبو:
الفن الذي يُشبهنا، الذي يعبّر عن أحلامنا وهزائمنا وأشواقنا، لا يموت. شكرا جزيلا لك صديقي د محمد شيرين ،فانت اخي الذي لم تلده لي امي ،وانجبته لي أم الدنيا .