غيداء أبو طير: المحكمة الجنائية الدولية: تشريع بتوجيهات سياسية

غيداء أبو طير: المحكمة الجنائية الدولية: تشريع بتوجيهات سياسية

 

غيداء ابو طير

منذ السابع من أكتوبر عام 2023، وقطاع غزة يتعرض لهجوم عسكري واسع النطاق، أسفر عن مقتل عشرات الآلاف من المدنيين، وتدمير ممنهج للبنية التحتية، بما في ذلك المستشفيات والمدارس ومراكز الإيواء. في ظل هذا الواقع، لم تكن استجابة المحكمة الجنائية الدولية على مستوى الحدث، بل جاءت باهتة، بطيئة، ومحاطة بكثير من التحفظ، الأمر الذي يثير تساؤلات جدية حول مصداقية المؤسسة، واستقلاليتها، وطبيعة المعايير التي تحكم تحرّكها.
فبين صمت أولي طويل، ثم تصريحات دبلوماسية متوازنة، وانتهاءً بإعلان “نية” إصدار مذكرات توقيف بعد أكثر من سبعة أشهر من المجازر، بدا واضحًا أن القانون لا يُطبّق، بل يُدار – وفق ما تتيحه المعادلات السياسية لا النصوص القانونية.
أولًا: التخاذل عن فتح تحقيق عاجل رغم توفّر الأسس القانونية وفقًا للمادة (15) من نظام روما الأساسي، يحق للادعاء العام فتح تحقيق مباشر إذا توافرت “أسس معقولة للاعتقاد” بأن جريمة تقع ضمن اختصاص المحكمة قد ارتُكبت.
ومع ذلك، وبعد مجازر موثقة بالصوت والصورة:

قصف مستشفيات (الشفاء، الإندونيسي، العربي).

محو أحياء كاملة (الزيتون، الشجاعية، رفح).

قتل آلاف الأطفال.

تصريحات مباشرة من مسؤولين إسرائيليين يعبّرون فيها عن نية التدمير الشامل.

رغم كل ذلك، لم يُفتح تحقيق رسمي عاجل. واكتفى الادعاء العام بالقول: “نحن نراقب الوضع”.

“نحن نراقب”؟
هل صارت المحكمة الجنائية الدولية جهاز أرصاد دولي؟
هل صارت وظيفة المدعي العام هي متابعة المجازر عبر تغطيات الجزيرة والـ BBC؟
أين التحقيق الاستباقي؟ أين مذكرة الادّعاء؟ أين تطبيق نص المادة؟

الواقع أن المدعي العام مارس “التقدير السياسي”، لا “السلطة القضائية”.
اختار أن يؤجل التورط في الملف، إلى أن “تهدأ الزوبعة” أو إلى أن يُسمح له بالحركة.
نحن لا ننتقد تأخرًا، بل نواجه تواطؤًا عبر الإرجاء.

ثانيًا: الامتناع عن استخدام تدابير الحماية المؤقتة – القانون كاختيار وليس التزام المادة (57) من نظام روما تمنح المحكمة، بناءً على طلب الادعاء، سلطة اتخاذ تدابير لحماية المدنيين أو ضمان جمع الأدلة.
العدوان على غزة حالة واضحة من “الضرر المستمر”، ومع ذلك:

لم تطلب المحكمة وقف إطلاق النار.

لم تطلب إرسال بعثة أممية للحماية.

لم تطلب حتى ضمان إدخال الطعام أو الدواء.

كان بإمكان المدعي العام، بل كان من واجبه المهني، أن يُخاطب مجلس الأمن، أو حتى الجمعية العامة، بطلب عاجل. ولكنه لم يفعل.
لأن الحديث مع نيويورك أصعب من الحديث مع لاهاي،
ولأن طلب حماية غزة، يعني بالضرورة: اتهام إسرائيل.
وهذا ما لا يُحبّذ النظام الدولي قوله علنًا، ولو على حساب الأرواح.

ثالثًا: زيارة رفح – العرض الإعلامي بدل الدخول إلى مسرح الجريمة في ديسمبر 2023، زار المدعي العام كريم خان معبر رفح. لم يدخل غزة، لم ير الضحايا، لم يُجِر تحقيقًا ميدانيًا. وقف أمام الكاميرات وقال: “نحن هنا، نتابع، نتحقق.”
لا توجد مادة في القانون الدولي تُجيز “إدارة العدالة من خلف السياج”.
المجزرة لا تُشاهد من الشباك، ولا تُدار عبر التصريحات.
هل كان يخشى الدخول؟ أم يخشى الاعتراف بما سيراه؟
هل خاف على حياته؟ أم على توازن علاقاته الدولية؟
النتيجة واحدة: اختار المدعي العام أن يبقى على بعد خطوة من الجريمة، حتى لا يُجبر نفسه على التحرّك.
المحكمة تحوّلت إلى مراقب، لا قاضٍ. إلى متفرّج، لا محاسِب.

رابعًا: مذكرات التوقيف – ما بعد القتل لا يهم أعلنت المحكمة في مايو 2025 “نيتها إصدار مذكرات توقيف” بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت.
لكن الإعلان جاء:

بعد استشهاد أكثر من 35 ألف مدني.

بعد استخدام التجويع كسلاح.

بعد أن تم تهجير مئات آلاف العائلات.

وبعد أن بدأ الرأي العام العالمي يُحرج المحكمة بصمته.

ما قيمة مذكرة توقيف “متأخرة”؟
هل ينتظر القانون أن تكتمل عناصر الجريمة ليُعالجها؟
بلغة القانون: المادة 58 تتيح إصدار المذكرة إذا توافرت “أسباب معقولة”، وهذه الأسباب كانت جاهزة منذ أسبوع العدوان الأول.
بلغة السياسة: المحكمة لم تُصدر المذكرة حين كانت مؤلمة، بل حين صارت “مقبولة سياسيًا”.
ولم تُصدرها لحماية الضحايا، بل لحماية صورتها.

خامسًا: التوازن الخطابي المزعوم – مساواة القاتل بالمقتول صرّح مكتب الادعاء مرارًا بأنه “يحقق مع جميع الأطراف”، وأشار إلى “قلقه من أفعال حماس”، في الوقت الذي كانت فيه إسرائيل ترتكب إبادة جماعية موثقة.
العدالة لا تعني المساواة العددية في الإدانة.
لا يجوز مساواة الطرف الذي يملك جيشًا وطائرات، بمن يملك نفقًا ومكبّرات صوت.
المحكمة هنا لم تطبّق القانون، بل حاولت “اتقاء اللوم”، فخلقت خطابًا مزدوجًا:

يلوم الضحية لأن الجلاد أقوى.

ويحمي الجلاد لأنه صديق الممولين.

سادسًا: غياب الإرادة الردعية – حين تصبح العدالة انتقائية وظيفة المحكمة ليست فقط المحاسبة، بل الردع.
ومع ذلك، لم تصدر المحكمة أي تحذير، لم تُشعر إسرائيل بأنها تخضع للملاحقة، لم توقف شحنة أسلحة واحدة، لم تطالب بإجراءات مؤقتة.
لأن المحكمة لا تريد أن تفتح على نفسها باب المواجهة مع حلفاء إسرائيل.
ولأنها تفهم أن العدالة هنا “ليست مطلوبة”، بل “مضبوطة الإيقاع”.
ما لم تفهمه المحكمة أن هذا السلوك سيحطم ما تبقى من احترام لشرعيتها، ليس في غزة فقط، بل في كل العالم الذي يعلم تمامًا أن العدالة الدولية ما تزال امتيازًا لا حقًا.

الختام: العدالة التي تصل متأخرة ليست عدالة… بل شراكة صامتة المحكمة لم تُخفِ فشلها، بل رتّبته قانونيًا، وجمّلته بتقارير ومؤتمرات صحفية.
لكن التاريخ لا ينسى، والعدالة التي لا تُمارَس وقت الحاجة تتحوّل إلى شكل آخر من الجريمة.
إن ما جرى ويجري في غزة هو تحدٍ مباشر لمصداقية المحكمة، فإما أن تكون جهة قضاء، أو جهة تبرير، وإما أن تكتب القانون، أو تكتفي بقراءته على قبور الضحايا.
والسلام على من يسعون للعدالة لا للواجهة.
محاميّة
الأردن