ملاحظات حول حياة مناضل… بدون جبهة

د. لينا الطبال
في بلادنا عندما تشرق الشمس وتدفن الأمهات ابناءها … ويستمر العدو بقصف المدن، وتتناقل الفضائيات صور المجزرة على الهواء مباشرة يظهر المناضل الانيق مثل بطل خارق كما يظهر سوبرمان مرتديا بذلة الكاريزما الكرتونية.
في عالمنا المقلوب يحدق المناضل التلفزيوني في الكاميرا …يتقمص دور الباحث المتخصص، العارف بالأسرار، انه يعرف كل شي، نعم يعرف: عدد الصواريخ، نوعها، يعرف عدد الرؤوس النووية في ترسانة العدو، هو يحصي القنابل بدقة، ويعد كل رصاصة… يحفظ الأرقام جيدا وأرقام الضحايا ايضا، وكم كوب قهوة شرب العدو صباح الغارة. يعلم تفاصيل الوان ستائر غرف نومهم، ونوع العطر الذي وضعه رئيس وزراء العدو وزوجته عند لقائهما ترامب في واشنطن.
وحبذا لو كان المناضل من النخب… فهو يحلل ويشرح خريطة الصراع. قد يستعمل عبارات تقنية، والكثير منها. وجمل بلغة أجنبية أيضا. هذا النوع من المناضلين تراه يضع صورة صغيرة لعبد الناصر بالأبيض والأسود على مكتبه، يردد تلقائيا شعارات تشي جيفارا Hasta la victoria siempre ومقولات نضالية أخرى. لكنه لم يقرأ بحياته كتاب لغابريال غارسيا ماكيز كـ”الحب في زمن الكوليرا” مثلا… هو مشغول دائما بما يقوله الناس عنه.
هو ذلك النرجسي المتأنق، يلهث وراء التصفيق والقلوب والورود الافتراضية. هذا المناضل الخارق يحارب على الفضائيات، هو يقاتل من اجل لقاء، من اجل برنامج ومن أجل لقطة جيدة.
يذكر كلمة “وطن” خمس مرات وكلمة “احتلال” مرة واحدة وبسرعة، يتنقل بين استوديوهات التلفزيون وكواليس المؤتمرات، ويلقى في اوقات فراغه المحاضرات للشاب في الجامعات الأجنبية.
نرجسي حتى العظم، يحرص ان تلتقط صورته من الزاوية اليسرى، فهو يساري قبل كل شئ … هو مناضل بنصف حياة، ونصف رأس، وعين ضيقة. يُصرح بنصف الكلمات وتحليله نصف تحليل اضيق من أن يتسع لفلسطين ودمشق معا. يتألم للاحتلال الإسرائيلي في سوريا بصمت لطيف حتى لا يزعج الممولين، ويسقط من تحليله جنوب لبنان كما يسقط امرأة وعدها بمنتصف الطريق، ثم هرول نحو الأضواء… من الم يعرف أنه سببه، لكنه لا يتحمل مسؤوليته…لا تطلبوا منه اكثر، يكفيه انه يناضل من اجلكم كلكم… ويدخن بسببكم جميعا علبتي سجائر يوميا…
الفرق واضح بين من يناضل لإيصال صوت المجازر في العالم العربي ومن يناضل لإيصال صوته هو، إلى كرسي وزاري، او مقعد تفاوض، او حتى إلى حلقة بودكاست مدفوعة.
المناضل الحقيقي، ذاك الذي يشبهنا يرى في جوع غزة عار، وفي قهر سوريا كارثة، وفي رفع العقوبات وهم…
هذا المقال ليس حول سيرة مناضل بلا جبهة، رغم العنوان المدون اعلاه. الحقيقة انني غيرت رأيي، هو الآن تحول الى مقال تمرد على “الكليشيهات” وكل ما انقلب الى بازار باسم النضال…. هل من يوقع عقد تمويل، ويتقن فعلا لعبة التوازن بين ما يمكن قوله وما يسمح به؟… لا أحد يتكلم عن المجازر إلا اذا سمحت الجهة الداعمة. ولا أحد يذكر فلسطين او سوريا او الجولان المحتل… حقا الجولان محتل؟ منذ متى؟
أن تناضل هنا، عليك أن توثق دماء الشهداء حسب رغبة الجهات المانحة، لا تتألم بصوت عال، لا تنتقد الاحتلال بصوت عال ايضا، فقد يفهم ذلك كدعوة إلى العنف، أما الشهداء، فلو لا تأتي على ذكرهم يكون افضل بكثير.
هذا كل شي. اتفقنا اذا؟؟ هنا يبتسم المناضل الانيق وتبرق عينيه.
هذا المناضل الخارق يصرح انه يجب اعادة اعمار سوريا لكنه ينسى ان إسرائيل على مشارف دمشق. الميركافا على بعد خمس خطوات ونصف فقط عن قلب العاصمة… كيف يمكنك إعادة اعمار بلد قبل تحريره من الاحتلال؟ قبل ان تذكر انه محتل أصلا؟؟
يا مناضل، هذا لم يعد نضالاً… هذه وظيفة باردة. تكتبها بعناية في سيرتك الذاتية CV بضيغة Word و بخط Arial، وترسلها الى جهة تمول “تعزيز قدرات المجتمع المدني “… ثم تحول الحقيقة الى مصطلحات “مطورة”، وتصبح النكبة Conflict, والاحتلال complicated situation, تماما كما يتم طبع صور حنظلة والنجوم الحمراء الثلاث وشعارات التحرير على “تيشرتات” رخيصة الصنع في بنغلادش ويعاد بيعا في باريس ولندن بـ 30 يورو للقطعة.
الشجعان الحقيقيون، لا يسمح لهم الظهور على الشاشات، يجري منعهم … ومعاقبتهم. لا يمنحون منصات، يتم اغلاق حساباتهم من مواقع التواصل، ويحرمون حتى من حق الكلام. لا صوت لهم في التلفزيون، لا على تويتر، لا في يوتيوب. المناضل الحقيقي ممنوع… كلما قال الحقيقة وطمأن الناس وصفوه بالتطرف، بعدم الواقعية، وعدم الأهلية للتمويل.
المناضل الحقيقي يتم اسقاطه لإنه يزعجهم… لأنه يصرخ في وجوههم مثل عبد الباري عطوان ويقتحم الحقل المحترق. صحيح انه يدفع ثمن النضال غاليا، لكن يحتفى به بين الشعوب، لا في قصور السلطة.
سأقولها لك كما يقولها الاطفال حين لا يعرفون الكذب بعد:
كيف لمناضل مغرور أن يرفع راية العدالة، وهو يدوس على قلب إنسان آخر؟
على مشاعر انسان آخر؟
كيف يستطيع ان يؤذي…ان يكذب؟
كيف يبرر لنفسه هذا؟ بينما هو يصرخ في وجه الظلم، وهناك من يصرخ من ظلمه هو.
الحق هو الثابت الوحيد في هذه الحياة المتقلبة…. ولا مساومة عليه.
أما أنا، فأسألك: هل يمكن أن تدافع عن حقوق الآخرين وأنت تفرط في حقك؟
تضحك؟
تتظاهر بالنبل؟
تصرخ عدالة؟!
ماذا تفعل؟
سؤال لا جواب له… فقط لأن الجواب لن تجرأوا على تحمله.
عزيزي القارئ تذكر ان النضال هو وجع في الضمير، رصاصة في القلب، وخيانة يومية من الرفاق الذين باعوا الحق.
ثم يخرجون اليك بخطاب حول حرية التعبير…. متى ستفهم؟
انه لا يمكنك ان تمسح فمك من دم ليس لك، لكنك ساهمت في سفكه.
يخبرونك أن التطبيع هو حرية رأي، وتصدقهم.
حرية التعبير لا تبرر أن تصفق للمجزرة لأن الضحية لا تشبهك في اللون او اللغة او الطائفة.
لكن الحرية التي لا تصرخ في وجه دبابة، التي لا تبكي طفلا مقطوع الرأس،
ليست حرية تعبير.
حرية التعبير لا تسمح لك بإدانة المجزرة هنا ومباركتها هناك.
تماما كما لا تبرر للمناضل أن يسحق إنسانا بحذائه، ثم يذهب ليأكل البوظة ويكمل نضاله.
المبدأ ان الحرية ليست مطلقة … نعم، هي حق مقدس، حرية التعبير هي ان تصرخ في وجه قاتلك وقاتل هذا الوطن… تقول له كم هو قبيح ذلك الوجه الذي لا يعرف الرحمة.
أستاذة جامعية، باحثة في العلاقات الدولية والقانون الدولي لحقوق الإنسان – باريس
@lynaPERON