عبد الحكيم العياط: هل السياحة أم العودة للوطن؟ حين تصبح الأرقام سرداً سياسياً في المغرب

عبد الحكيم العياط
كل سنة، يثور الجدل من جديد حول حقيقة ما يُسمى بـ”الإنجاز السياحي” الذي تتباهى به الحكومة، بعد إعلانها استقبال 17.4 مليون “زائر” في عام 2024. ورغم ما يبدو للوهلة الأولى وكأنه انتصار اقتصادي لقطاع استراتيجي، فإن ما خفي من خلف الأرقام أثار عاصفة من التساؤلات، ليس فقط في أوساط المختصين، بل حتى في الشارع العام الذي أصبح يطرح بأسلوب بسيط لكن جوهري: هل زيارة مغربي مقيم بالخارج لأهله تعد فعلاً “سياحة”؟ أم أن الأرقام تُستخدم لتجميل الواقع وتضخيم الإنجاز؟
السلطات الحكومية، وعلى رأسها وزارة السياحة، تتحدث بثقة عن نجاح مبكر في بلوغ أهداف “رؤية 2030″، مشيرة إلى تسجيل عائدات سياحية بلغت 112 مليار درهم خلال عام 2024، وخلق 25 ألف منصب شغل، وتحسين البنية التحتية بعدة أقاليم. كما تعتبر الدولة أن مغاربة العالم، الذين يُقدّر عددهم بين 5 و6 ملايين شخص، يمثلون رافعة ناعمة للاقتصاد الوطني، عبر التحويلات المالية والاستثمارات العقارية والطلب الموسمي على الخدمات. غير أن هذه الرواية الرسمية تصطدم بانتقادات متعددة، سواء من المهنيين في القطاع أو من النواب البرلمانيين، وصولاً إلى الخبراء في الاقتصاد والسياسات العامة، الذين يعتبرون أن إدماج زيارات المغاربة المقيمين بالخارج ضمن أرقام الوافدين السياحيين يُربك تعريف السياحة نفسه، ويخلق انزياحاً دلالياً خطيراً.
بحسب بيانات وزارة السياحة، فإن حوالي 8.6 مليون من إجمالي الزوار في عام 2024 هم من المغاربة المقيمين بالخارج، أي ما يقرب من نصف “السياح” المعلنين. غير أن هذا الرقم يخفي مفارقة كبيرة: فالإقامات الفندقية التي سجلها هؤلاء لا تتجاوز 20 ألف ليلة مبيت، مقابل أزيد من 17 مليون ليلة مبيت للسياح الأجانب. الأهم من ذلك أن الإيرادات السياحية بالعملة الأجنبية لم ترتفع سوى بنسبة 7% مقارنة مع العام السابق، في حين قفزت نفقات المغاربة على السياحة الخارجية بنسبة 20%، وفق معطيات مكتب الصرف. هذا الفارق الصارخ يُشير إلى “تسرب صافي” للعملات الصعبة، يُناقض الصورة الإيجابية التي تقدمها الحكومة.
تقرير بنك المغرب لسنة 2024 يؤكد أن التحويلات المالية لمغاربة العالم تجاوزت 110 مليارات درهم، وهو رقم مهم بلا شك، لكنه لا يرتبط مباشرة بالنشاط السياحي. كما يشير التقرير إلى أن نسبة مساهمة قطاع السياحة في الناتج الداخلي الخام تبقى في حدود 7%، وهي نسبة لم تتغير كثيراً رغم الارتفاع الكبير في عدد الزوار المُعلن عنهم. بمعنى آخر، هناك نوع من التوظيف الرمزي لهؤلاء المواطنين لتحسين المؤشرات الماكرواقتصادية، دون أن يقابله أثر ملموس على مستوى جودة الخدمات أو تنويع العرض السياحي.
في هذا السياق، يُطرح سؤال حول مدى انسجام هذا التوسع في تعريف “السائح” مع المعايير الدولية المعتمدة من قِبل المنظمة العالمية للسياحة، التي تعرف السائح بأنه “شخص يزور بلداً غير بلد إقامته الاعتيادية لأغراض الترفيه أو العمل أو العلاج، ويقيم خارج بيته المعتاد لفترة لا تتجاوز السنة.” فهل يمكن اعتبار مواطن مغربي يحمل جواز سفر وطنياً، ويزور عائلته أو أملاكه، سائحاً أجنبياً؟ في الواقع، غالبية الدول مثل فرنسا وإيطاليا وتركيا ومصر تفصل بشكل واضح بين السياح الأجانب وزوار الجالية الوطنية المقيمة بالخارج، فكيف يعقل أن يعمد المغرب إلى دمجهم دون تمييز؟
إدراج مغاربة الخارج في خانة السياح لا يعكس فقط رغبة حكومية في تحسين المؤشرات، بل يكشف توجهاً بيروقراطياً يعيد تشكيل دلالات مفاهيم مثل “السياحة” و”المواطنة”. فابن الوطن، العائد لأسرته، يُختزل إلى رقم في نشرة إحصائية تُستخدم لدعم خطاب الإنجاز التنموي. هنا، لا تعود السياسات العمومية مجرد أدوات تقنية، بل تتحول إلى سرديات سياسية تعيد تأطير الواقع لصالح الرواية الرسمية.
ومع تصاعد الأصوات الناقدة، تبرز الحاجة لإعادة صياغة السياسات السياحية على أسس واقعية ومتوازنة، تعترف بالقيمة الاقتصادية لمغاربة العالم دون أن تُقحمهم قسراً في خانة الزوار الأجانب. فبدلاً من اختزالهم في دور استهلاكي ظرفي، لماذا لا تطور الحكومة برامج سياحة ثقافية أو دينية موجهة خصيصاً لهذه الفئة، تراعي خصوصياتهم وتستثمر في تعزيز ارتباطهم بالوطن؟ ولماذا لا تتحول “مواسم العبور” إلى فرص اقتصادية وثقافية مدروسة، تندمج ضمن رؤية وطنية للهجرة؟
الأرقام التي تُستخدم اليوم كأدلة على نجاح الحكومة تُخفي مشكلات بنيوية تتعلق بالبنية التحتية، والخدمات، والتوزيع الجهوي للعائدات. فلا يعقل الحديث عن تدفقات سياحية ضخمة في بلد لا يزال يفتقر إلى شبكة نقل عصرية، ويعاني من اكتظاظ مروري في المناطق الجبلية أو الساحلية خلال المواسم، ومن تهميش واضح للمناطق الصحراوية والثقافية التي تملك مؤهلات هائلة. فبحسب تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي لسنة 2023، فإن أكثر من 75% من مداخيل السياحة تُركز في ثلاث جهات فقط: مراكش آسفي، الدار البيضاء سطات، وأكادير سوس ماسة. في حين تظل مناطق مثل درعة تافيلالت والشرق والشاوية غير مستفيدة تقريباً من هذه الطفرة المفترضة.
ثم تأتي مسألة جودة الخدمات، التي لا تزال محل شكاوى متكررة من الزوار والمواطنين على حد سواء. من الأسعار المبالغ فيها، إلى ضعف التكوين المهني للعاملين في القطاع، إلى افتقار العديد من الوجهات السياحية للبنيات الأساسية والمرافق الأساسية. وفي ظل منافسة إقليمية شرسة، حيث تحقق إسبانيا أكثر من 84 مليون سائح سنوياً، وإيطاليا 94 مليوناً، تبدو الأرقام المغربية هزيلة نسبياً، خاصة عند النظر إلى العائدات الصافية من العملة الصعبة أو معدل الإقامة الليلي للسائح.
من هنا، يظهر أن التحدي الحقيقي أمام المغرب لا يكمن في اللعب بالأرقام، بل في بناء نموذج سياحي متكامل ومستدام، يحترم المواطن السائح كما يحترم المواطن المقيم بالخارج، ويُوزع المنافع بعدالة، ويرتقي بالخدمات، ويُحقق التكامل بين السياحة وباقي القطاعات الإنتاجية كالفلاحة والصناعة التقليدية. النجاح الحقيقي لا يُقاس بعدد الزوار فقط، بل بمدى تحقيق التنمية المحلية، وتحسين صورة البلاد، وتكريس الثقة في السياسات العمومية.
في الختام، فإن إدراج مغاربة العالم ضمن فئة السياح يكشف خللا في فلسفة التدبير العمومي، فبدل اعتماد الواقعية والشفافية نجد تبني منطق التجميل والمؤشرات الشكلية. لكن الأرقام لا تُخدع طويلاً، ولا تنجح في إخفاء التحديات البنيوية. لذلك، فإن الحاجة اليوم ماسة إلى مراجعة شاملة لرؤية المغرب السياحية، تُعيد تعريف الأهداف، وتُوضح المفاهيم، وتُصلح الأعطاب بدل تزيين الواجهة. فلا نجاح من دون مصداقية، ولا تنمية من دون عدالة، ولا سياحة من دون رؤية واقعية تُنصت للخبراء، لا للبلاغات فقط.
باحث جامعي في العلوم السياسية