د. فيصل عوض حسن: متى سيفهم السودانيون حقيقة العقوبات الأمريكية؟

د. فيصل عوض حسن
أعلنت وزارة الخارجيَّةِ الأمريكيَّة عن اعتزامهم فَرْضْ عقوبات جديدة على السُّودان، تتمثَّل في تقييد الصادرات ووضع حدود للاقتراض المالي اعتباراً من السادس من يونيو/حزيران القادم، وذلك بعدما ثَبُتَ (حسب بيان الخارجِيَّة) استخدام الجيش السُّودانِي للأسلحة الكيميائِيَّة في حربه ضد (مليشيا) الجنجويد. مع مُلاحظة أنَّ بيان خارجِيَّة الأمريكان لم يُوضِّح مكان وزمان استخدام تلك الأسلحة أو نوعيتها، ودون تحقيقات/فحوصات دقيقة، لا من أمريكا أو غيرها من الدول أو المُنظَّمات الدولِيَّة والإقليميَّة المَعنِيَّة بهذا الأمر!
يبدو أنَّنا موعودون بسلسلةٍ جديدةٍ من الابتزازات الأمريكيَّة، ولكن ولكي يكون حديثنا موضوعياً، من الأهمِّيَّة بمكان استحضار بداية العقوبات الأمريكيَّة، و(المُتَسَبِّبين) فيها وأثرها عليهم، سواء كانت العقوبات القائمة أو (الإضافِيَّة) المُتَوقَّع تطبيقها مطلع يونيو/حُزيران القادم! وفي هذا الخصوص، فإنَّ الوقائع التاريخيَّة المُعاشة فعلاً، تقول بأنَّ الخطاب العدائي للمُتأسلمين عقب سَطْوِهِم على السُلطة سنة 1989، أشْعَلَ الصراع مع الأمريكان، وازداد الصراعُ أكثر بتأييد (المُتأسلمين) لغزو الكُويت من قِبَل العراق، ثُم تطوَّر باحتضانهم للجماعات الإسْلَامَوِيَّة في الخرطوم ورعاية أنشطتها، كحالة أُسامة بن لادن وغيره، مما أدخل السُّودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب سنة 1993. ورغم تخفيف المُتأسلمين لخطابهم العدائي وطردهم لأسامة بن لادن سنة 1996، إلا أنَّ أمريكا شَدَّدَت حصارها الاقتصادي على السُّودان سنة 1997، و(قَصَفت) مصنع الشفاء سنة 1998، و(خَفَّضَت) التمثيل الديبلوماسي وصَنَّفَت السُّودان ضمن الدول التي يُمكن مُحاصرتها اقتصادياً عقب أحداث 11 سبتمبر 2001.
تأسيساً على العرض المُختصر أعلاه، يتَّضح أنَّ المُتأسلمين هم الذين (تَسَبَّبوا) في العقوبات المفروضة على السُّودان، بتصريحاتهم ومُمارساتهم العدائِيَّة دولياً وإقليمياً، لكنهم لم يـتأثَّروا بتلك العقوبات، سواء كجماعة أو أفراد. فعلى الرغم من (صناعة) المُتأسلمين لتلك العقوبات من العدم، وفق ما استعرضنا أعلاه، إلا أنَّ علاقاتهم مع الأمريكان (تَعَزَّزت) في جميع المجالات، خاصَّةً الأمنيَّة، طِبقاً لإقرارات الطرفين (الأمريكان/المُتأسلمين)، كتصريحات القائم بالأعمال الأمريكي في يوليو 2016 بشأن تدريب عناصر جهاز الأمن بإشراف الاستخبارات الأمريكيَّة، وتصريحات غندور وسفير المُتأسلمين لصحيفة واشنطن تايمز في مايو 2016، وقبلها إقرار مُدير أمن المُتأسلمين (قوش) المُوثَّق في يناير 2014، وتأكيداته بأنَّ تعاوُنهم مع أمريكا (وثيقٌ جداً) وبإشراف البشير شخصياً. هذا بخلاف مُوافقة المُتأسلمين على بناء أكبر سفارة لأمريكا، بأفريقيا والشرق الأوسط في الخرطوم، واستحواذ رؤوس الفجور الإسْلَامَوِي وأُسرهم على جوازاتٍ أمريكيَّة، وأسفارهم المُتلاحقة واستقرار العديدين منهم هناك وغيرها من مظاهر التعاوُن والتنسيق و(الانسجام)!
الواقع الذي عشناه وما نزال، يُثبت بوضوح أنَّ العقوبات الأمريكيَّة طَالَت فقط السُّودان (الكيان والشعب)، ودونكم ما جرى لمُؤسَّساتنا الرئيسيَّة، كالخطوط الجَوِّيَّة والبحريَّة والسِكَك الحديديَّة والنقل النهري، ومشروع الجزيرة وقطاع الخدمات كالسياحة والاتصالات، التي بِيْعَتْ بأبخس الأثمان رغم نجاحها (قبل وبعد بيعها)، وتَرَاجَعَت الزراعة وارتفعت تكاليفها وتَعَثَّرَتْ البعثات والمِنَحْ الدراسية، وتَعَطَّلَ استيراد أدوات المعامل والمُختبرات ومُتطلَّبات العملية التعليميَّة، وضَعُفَ العمل المصرفي تبعاً لسيطرة أمريكا على مُؤسَّسات المال العالميَّة، كصندوق النقد والبنك الدوليين وغيرهما، من مُؤسَّسات التمويل والتنمية التي تَضَاءَلَت برامجها في السُّودان. غير أنَّ الأخطر في الأمر، هو ارتباطُ العقوبات الأمريكيَّة بتمزيق البلاد، وفق ما حدث في اتفاقِيَّة نيفاشا التي تَمَّت برعاية وضغط الأمريكان، واستخدموا (جَزَرَة) رفع العُقوبات للتوقيع عليها مما أسفر عن (فَصْلِ) الجنوب، وفقاً لإقرار المُتأسلمين والأمريكان! وبنحوٍ عام، يُمكن القول، بأنَّ المُتأسلمين والأمريكان صنعوا هذه العُقوبات لنهب وتفكيك السُّودان، مُستخدمين أُسلوب الإدارة بالأزمات Management by Crisis، واستراتيجيات تشومسكي بدءاً بالإلهاء وخلق المُشكلة وإيجاد الحل، والتَدَرُّج والتأجيل، مروراً بمُخاطبة العَامَّة كالأطفال، واستخدام العاطفة دون التأمُّل، وإضعاف جودة التعليم والتعايُش مع الجهل، وانتهاءً بتوسعة الفجوة المعرفيَّة بين العامَّة والحاكمين وتعميق الشعور الذاتي بالذنب.
حمدوك وقحتيُّوه استكملوا (خيانات) المُتأسلمين لصالح الأمريكان، قياساً بجُملة من المُمارسات والتصريحات ومُحصِّلتها النِهائيَّة. إذ تَمَاهى حمدوك وقحتيُّوه مع البرهان ورُفقائه في عمليات التطبيع، رغم مُحاولات التضليل والمفضوحة، وأشرفَ حمدوك على توقيع اتفاقيات أبراهام عبر مُسْتَوْزِر عَدله (نصرالدين عبدالباري)، وقاد حملات ترويج منافعها الاقتصادِيَّة الخُرافِيَّة بعلم ودعم البرهان ورُفقائه، وكانت حِجِّتهم (رفع العقوبات) التي لم تُرْفَع، وفق ما فَصَّلته في مقالتي (لماذا التضليل والتعتيم على تفاصيل التطبيع؟!) بتاريخ 31 يناير 2021! كما التزم حمدوك (دون تفويضٍ شعبي) بدفع تعويضات لا قِبَلَ لنا بها، وفي جرائمٍ لم نرتكبها من أساسه، وذلك خلال زيارته غير المُنسَّقة لأمريكا وفي غياب كبار مسئوليها وقت تلك الزيارة، وفق ما أوضحتُ تفصيلاً في مقالتي (حِصَارُ السُّودان: تَضليلٌ مُستمر وخِيانةٌ مُتجدِّدة) بتاريخ 8 ديسمبر 2019. وهناك أكاذيب وتضليلات حمدوك ورُفقائه القحتيين، وربطهم الخبيث بين (إعفاء) الديون وجَلبْ المُساعدات والدعومات الدَولِيَّة والإقليميَّة، وبين (رفع العقوبات)، وهي أمورٌ تناولتها تفصيلاً أيضاً في مقالاتٍ عِدَّة كـ(تعقيباً على مقالة التداعيات الاقتصادية للاحتراب السوداني) بتاريخ 1 نوفمبر 2023 وغيرها.
الراجحُ عندي، أنَّ هذه العقوبات (الإضافِيَّة) المُشار إليها أعلاه، تأتي كتمهيد لخطواتٍ لاحقة تستهدف استكمال نهب وتمزيق ما تبقَّى من البلاد، وتحديداً ما يُعرَف بـ(مُثلَّث حمدي) الذي حَصَرَ السُّودان في محور (دنقلا، سنَّار، الأُبيض) واستبعد الواقعة خارج هذا المحور، حيث قَطَعَ المُتأسلمون، ومن بعدهم البُرهان/حِمِيْدْتي ورُفقائهما من القحتيين وحركات اتفاقيات جوبا، أشواطاً كبيرة في تحقيقه، دون سقوفٍ أخلاقِيَّة أو إنسانِيَّة، ومن ذلك (صناعة) الحرب الماثلة التي نجحوا من خلالها في توسيع الهُوَّة الاجتماعِيَّة والوجدانِيَّة بين السُّودانيين، مُستعينين بالمُرتزقة والمُجنَّسين وسَقَطَ المَتَاع، وهي أمورٌ فَصَّلتها وحَذَّرتُ منها منذ بدايات الحرب في مقالتي (هَلْ سيُدرِك السُّودانِيُّون حقيقة ومآلات الاشتباكاتُ الماثلة)، بتاريخ 1 مايو 2023 وغيرها. وبعبارةٍ أخرى، تمَّ إكمال كافَّة حلقات مُثلث حمدي، حيث تمَّ (الفَصْل الوجداني) شبه الكامل بين دارفور والمنطقتين وبين بَقِيَّة السُّودان، وبخلاف الأراضي والموانئ المُخصَّصة للسعودِيَّة وروسيا وتركيا والإمارات (رغم أكذوبة العداء الشكلي)، فقد تَعزَّزت سيطرة المصريين على ما تَبَقَّى من الشمالِيَّة، عقب ابتلاعهم لحلايب والأراضي النُوبِيَّة. وواصلَ الإثيوبيُّون تَوَغُّلاتهم في أراضينا، بعدما ابتلعوا الفَشَقَة وأقاموا قُرىً كاملةً في الدِنْدِر منذ 2018. ودَخَلَت إريتريا في الخط لتأخذ نصيبها من أراضي الشرق، حيث دَعَمَ البُرهان تدريب وتسليح سُطوة المُجنَّسين الإريتريين بـ(مُسمَّى بني عامر)، وسَمَحَ بدخولهم بحجَّة دعم الجيش في حربه ضد الجنجويد، مع إضعاف أهل البلد الأصيلين والتضييق عليهم، بما يُنبئ عن تكرار الغدر بكل ما هو سُّوداني في الشرق، وصولاً لتحقيق السلام الذي سيكون مشروطاً بـ(رفع العقوبات)، وهو في الواقع يستهدف تسليم مُقدَّراتنا للطَّامعين بعد القضاء على أهل البلاد!
المُحصِّلة، أنَّنا كسُّودانيّين، الضحايا الحصريُّون لكل هذا العبث، ونحن المسئولين عن إنقاذ أنفسنا وبلادنا عبر الإسراع بالاتحاد والتضامُن الحقيقي و(العملي/الميداني)، قبل انفراط واستفحال الأمور واستحالة مُعالجتها! ليتنا نترك السُخرِيَّة من بعضنا البعض، لأنَّنا في مرحلة مفصليَّة حَرِجَة جداً، وأعداؤنا يمضون في مُخطَّطاتهم بسرعةٍ مُرعبة، مدعومين بخونةٍ وعُملاء نحسبهم مِنَّنا، ولا مجال للتسويف والتلكُّؤ والانصرافِيَّة، والصراعات الجِهَوِيَّة/القَبَلِيَّة تزيدنا ضعفاً وهواناً، لأنَّنا جميعاً مُسْتَهْدَفونبلا استثناء، بما يُحتِّم اتِّحادنا الكامل والصادق لاقتلاع الجميع، بدءاً بالبُرهان/حِمِيْدْتي وانتهاءً بالقحتيين وحركات اتفاقيات جوبا، ومُحاسبتهم ومُعاقبتهم على جرائمهم المُتراكمة، ثُمَّ التَفَرُّغ لإعادة بناء السُّودان على أُسُسٍ أخلاقِيَّة وإنسانِيَّةٍ وقانونِيَّةٍ وعلميَّةٍ سليمة.
كاتب سوداني