مصطفى بن خالد: عدن تتألم لكنها لا تنكسر ونساؤها يسجلن تاريخاً لا يُمحى من الكفاح.

مصطفى بن خالد: عدن تتألم لكنها لا تنكسر ونساؤها يسجلن تاريخاً لا يُمحى من الكفاح.

 

 

مصطفى بن خالد

في مدينةٍ عرفها العالم بوصفها حاضنةً للسلام، ومرفأً للتعدد، ومسرحاً لملاحم النضال الوطني، يتكرر اليوم مشهد لا يشبه عدن ولا يشبه نساءها .
نساءٌ عدنيات خرجن في مظاهرة سلمية مطالبات بالكرامة والعيش، فقوبلن بالضرب والسحل والإهانة… في مشهد يندى له جبين الشرفاء .

لم يحدث ذلك في عهد الاستعمار… ولا بعده!
في عدن، المدينة التي علمت الجزيرة كيف تكون المدينة، والتي وقفت نساؤها في وجه الاستعمار البريطاني بكل شجاعة، لم تُسحل فيها امرأة في الشارع… لا في الأمس الاستعماري، ولا في حاضر ما بعد التحرر .

نساء عدن صوّتن في أول انتخابات بلدية قبل أن تنال كثير من الدول العربية استقلالها .
دخلن الجامعات حين كان التعليم حكراً على الذكور .
كتبن وصحّحن ودرّسن وقُدن الحراك الوطني، ووقفن على منابر التغيير .

في زمن الحزب الاشتراكي، رغم القسوة والاضطرابات، لم تُضرب امرأة في مظاهرة .
وفي زمن التعددية السياسية، رغم العثرات، لم تُهن المرأة على قارعة الطريق .
في كل العهود، لم يجرؤ أحد على سحل امرأة عدنية في الشارع .

فما الذي تغيّر اليوم؟
من أين أتى هؤلاء الذين يرفعون شعارات السيادة وهم يطؤون كرامة أمهات المدينة بأقدامهم ؟
أي زمن هذا الذي تُصفع فيه المرأة العدنية لا لذنب سوى أنها قالت : “ كفى ” ؟

إن ما جرى ليس مجرد اعتداء… إنه إهانة جماعية لذاكرة المدينة، وضرب مباشر لجوهر هويتها التي تأسست على الاحترام المتبادل، والحضور الإنساني، والكرامة المرفوعة .

فما الذي تغير؟ هل تغيرت عدن؟

كلا، لم تتغيّر عدن… بل تغيّر أولئك الذين جاؤا من القرية ويُمسكون بعنقها اليوم .

عدن لا تزال هي المدينة التي تنبض بكرامة أهلها، المدينة التي لا تركع، والتي لا تعرف الخنوع .
 لكن الذين يحكمونها الآن لا يشبهونها، ولا ينتمون إليها، ولا يفهمون روحها .

الذين في السلطة اليوم ليسوا رجال دولة، ولا أبناء نظام، ولا حُماة قانون .
إنهم ميليشيات موجهة، تعمل تحت وصاية الأجنبي، وتتحرك وفق تعليماته، لا وفق إرادة الناس .

إنهم أدوات لا قرارات، وظلال لا قيادات .
يدّعون تمثيل الجنوب وهم يمتهنون كرامته، ويرفعون شعار السيادة وهم يستوردون تعليمات القمع من وراء البحار، كما تُستورد الأسلحة والألغام والمتفجرات .

لقد داسوا على الدستور، وتجاوزوا كل القوانين، وانتهكوا الأعراف والشرائع السماوية قبل الإنسانية .

أي شريعة تبيح ضرب المرأة لمجرد أنها طالبت بحقها؟
أي قانون يُجيز إذلال الأمهات على أبواب مؤسسات الدولة ؟
أي ضمير ينام بعد أن يرى الدمعة في عيون امرأة عدنية مكسورة ؟

هؤلاء ليسوا أبناء عدن …
بل غرباء على روحها، متطفّلون على تاريخها، وغربان تحوم فوق جراحها .

نساء يطالبن بالكرامة… فيُقابلن بالهراوات !!!

لم تخرج نساء عدن إلى الشوارع لأجل سلطة، ولا لحسابات سياسية، ولا رغبة في مناصب أو أضواء .
خرجن لأن الوجع فاض… ولأن الصمت أصبح خيانة .

خرجن لأن العدادات توقفت، والكهرباء تنقطع كما تُطفأ الأحلام .
لأن الماء لا يصل، والدواء لا يُرى، والخبز صار ترفاً في مدينة كانت ميناءً للخير .
لأن الجوع لم يعد شبحاً، بل جاراً يومياً، يسكن معهن في المطابخ الخالية .

خرجن لأنهن أمهات، وخائفات، وغاضبات…
لأن الكرامة لم تعد محفوظة، لا في العيش ولا في الصوت .
ولأن الفساد لم يعد عاراً، بل صار زيّاً رسميّاً لمن يحكم ويتحكم .

وماذا كان الردّ ؟
قنابل صوتية بدل الإجابة، وهراوات بدل الاحترام، وسحل بدل الاستماع .

هكذا قوبلت نساء عدن :
بالصراخ بدل الإصغاء، وبالهجوم بدل الحماية، وكأن السلطة ترتعد من صوت امرأة تقول: “ كفى ” .

لكن حين تُضرب المرأة العدنية، فالمشكلة ليست في المظاهرة… بل في المنظومة بأكملها .

عندما سقطت الهراوة… سقط معها الشرف

لكن بدلاً من أن تأتي الحماية …
جاء الردّ بالهراوات .
وبدلاً من أن يُصغى لنداء الكرامة…
جاء الصراخ، والركل، والصفع، كأن العدل خُنق في الزوايا المظلمة .

كان المشهد موجعاً حدّ الاختناق :
بزيّ أمني، بلا ملامح اخلاقية، بلا وازع، بلا شرف، ينهالون على نساء خرجن بوجع الأمهات، لا بسلاح، ولا بشغب، بل بصوت يشبه الدعاء :
“ ارحموا من في الأرض ” .

هؤلاء ليسوا أمن، بل مكسورين الناموس، فاقدي الهوية، غرباء على المدينة والتاريخ .
رجالٌ مزيفون، يقمعون نساء عدن… بينما عائلات قادتهم تتنعّم في قصور أبوظبي المكيفة، يزرعون الرخام ويقتنون اللوحات…

ويُتركونهم هنا، في شوارع عدن، يتسكعون بهراواتهم وقسوتهم، لا يعرفون من هي عدن، ولا من هنّ نساؤها .

أي فجور هذا ؟
أي نظام يجيز ذلك ؟
من منحهم هذا الحق القذر في إذلال نساءٍ لم يطالبن إلا بحق الحياة ؟

الصفعة التي وُجّهت لوجه المرأة العدنية… لم تكن مجرد صفعة .
كانت صفعة لمدينةٍ بكاملها، لتاريخها، لكرامتها، لذاكرتها الوطنية .
لكن عدن لا تسكت طويلاً، ونساءها لا يُهَنّ بلا رد .

عدن ليست قندهار… ونساءها لسن جواري

نحن لسنا في قندهار، ولسنا تحت ظلال طالبان .
نحن في عدن… المدينة التي فتحت نوافذها على التنوير قبل أن تُضاء كثير من العواصم .

في عدن، لم تكن المرأة تابعاً، بل صانعة معنى، وشريكة وطن، وصوتاً في أول الصفوف .
هنا لم تُفرض العزلة على النساء، بل فُتحت لهن المدارس منذ الثلاثينيات، وصعدن المنابر، وكتبن في الصحف، وخضن غمار النضال الوطني حين كان الصمت يخيم على الشرق .

هل نسيتم من هي رُقيّة الغُزالي ؟
المعلمة والمناضلة التي فتحت دروب الوعي في وجدان المدينة ؟
هل نسيتم فتاة العيدروس ؟
التي صدحت ضد الاستعمار البريطاني فدوّى صوتها في الأزقة قبل الإذاعات ؟
هل نسيتم أن عدن أنجبت أول وزيرة في جنوب الجزيرة، حين لم تكن المرأة في دول الجوار تملك حتى حق توقيع معاملة ؟

نساء عدن لم يكنّ يوماً “كماليات” في المشهد، ولا “ زينة ” في المؤتمرات، ولا أدوات ترويج لتمويل أجنب :
كنّ وما زلن ركيزة المدينة، وذاكرتها، وسلاحها في مواجهة القبح والظلم .

من يعتدي على امرأة عدنية، كمن يصفع المدينة كلها .
ومن يسحل صرخة جوعها، كمن يهدم الذاكرة .

عدن لا تقبل الكسر،
ونساؤها لا يقبلن الإهانة…
فاحذروا من صمت المدينة، فهو ليس ضعفاً، بل الهدوء الذي يسبق الانفجار .
هؤلاء لسن نساء هامش، ولا أدوات دعاية، بل ركنٌ من أركان عدن، وذاكرة من دم، وميراث من مقاومة .

أين الرجال…؟
أين القبيلة  أين الشيم والشرف والقيم
أين أنتم يا من تفاخرتم بالغيرة والنخوة ؟
أين الذين كانوا يملأون المجالس ضجيجاً عن الرجولة والقبيلة والكرامة ؟
أين الحق الذي لطالما رُفع في وجه الخصوم… لماذا صمت حين ضُربت النساء ؟
أين الرجال حين سُحلت امرأة في شوارع عدن لأنها طالبت بالماء والكهرباء ؟
أين أنتم حين صُفعت أم أمام ابنها ؟ حين جُرجرت ناشطة تطالب بلقمة شريفة ؟

هل ماتت النخوة… أم خُدّرت ؟
هل أصبحت “الرجولة” مجرد صورة على بطاقة قبَلية أو سلاح معلّق على الحائط ؟
إن من لا يغضب لامرأة يُهان شرفها… لا يُسمّى رجلاً، حتى لو تزيّا بمظاهر الفحولة.

اليوم، لم تُهَن النساء وحدهن… بل أُهين كل ساكت.
وعدن ستسجّل:
من وقف، ومن صمت، ومن خان.

من يجب أن يخجل ؟

على كل من يبرر ما حدث، أو يصمت عنه، أن يخجل.
على كل من يتصدر باسم الجنوب ويترك نساء عدن يُضربن، أن يخجل .
على من بنى سلطته فوق ظهور الجنود الفقراء وأجساد المظلومين، أن يخجل .
على من يتحدث عن السيادة وكرامة الوطن، فيما يده تمتد لضرب أم عدنية خرجت تطلب الخبز لابنها… أن يخجل .
الخجل اليوم ليس خياراً… بل فرض عينٍ على كل من يرى ويصمت، أو يبرر ويشارك، أو يتواطأ بوجهٍ بارد .

على كل من صمت عن ضرب النساء في عدن… أن يخجل .
على من برر القمع أو لاذ بالتأويل… أن يخجل .
على من لبس عباءة الجنوب، وترك نساء عدن يُسحلن في شوارع الكرامة… أن يخجل .

على كل زعيم ادّعى البطولة، بينما حراسه يركلون أمهات يبحثن عن الخبز… أن يخجل .
على من صعد فوق ظهور الجنود الجياع، وبنى مجده على صراخ المظلومين… أن يخجل .
على من باع السيادة في السوق السوداء، ثم تزيّن بخطابات الوطنية… أن يخجل .

الخجل ليس للنساء اللواتي خرجن يطالبن بحياة تحفظ لهن كرامتهن، بل للرجال والسلطة التي قابلتهن بالهراوات …
وللقادة الذين اختبأوا في مكاتبهم، بينما المدينة تبكي وتُجلد .

عدن لا تنتظر اعتذارات جوفاء،
بل تحاسب، وتكشف، وتلعن كل من تخاذل عن حماية وجهها النسائي المشرق .

عدن لا تموت… بل تكتب التاريخ بالحبر والدم

المدن العظيمة لا تُهزم بالهراوات، ولا تموت بالقمع، ولا تنام طويلاً تحت وطأة الخوف .
عدن لا تُدفن… بل تُدوِّن .
تسجّل في شوارعها كل صرخة، وفي جدرانها كل صفعة، وفي ملامح نسائها كل خيبة وجرح وكرامة مرفوعة .

نساءها لا ينسين…
والمدينة لا تغفر بسهولة.
وذاكرة عدن ليست دفتر يومي، بل سجل تاريخ، يحاسب من لا تحاسبه القوانين .

ما حدث لن يُمحى …
لن يُغسل بالبيانات الباردة، ولا بالتبريرات المهترئة، ولن يُطوى كما طُمست قضايا سابقة .

كل من رفع يده على امرأة عدنية، لن يُذكر كجندي… بل كعار .
لن يُدان في المقالات فقط … بل سيلعنه التاريخ، وتلفظه المدينة كما تلفظ البحر جثث الغرقى .

عدن تعرف أبناءها الحقيقيين…
وتعرف الطارئين. تعرف من يصونها، ومن يبيعها .
وتعرف كيف تُعيد حقها… ولو بعد حين .

عدن لا تموت… بل تسجّل كل شيء

المدن الحية لا تموت بالقمع، ولا تصمت إلى الأبد.
عدن تسجّل .
ونساءها لا ينسين. والذاكرة أشدّ من الرصاص .

ما جرى لن يُمحى من وجدان المدينة، ولن يُطمس كما طُمست قضايا كثيرة .
وكل من رفع يده على امرأة عدنية، سيُلعَن في كتب التاريخ، لا في صفحات الجرائد فقط .

نداء من عدن… إلى من تبقّى فيه ضمير

عدن اليوم لا تبكي، بل تشهد وتسجّل وتنتظر لحظة الانتصار .
نساءها لا يُهَنّ ويُنسين، بل يكتبن بدموعهن فصلاً جديداً من مقاومة العار والخذلان .
لكل من يظن أن القمع سيمحو الغضب … تذكّروا أن في هذه المدينة
وُلدت الصحافة، ونُسج الوعي، وخيضت أولى المعارك ضد المستعمر .
وأن المرأة العدنية كانت دائماً في المقدمة، لا في الهامش.
وهذا نداء ليس فقط للمحليين… بل للمجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية :
عدن اليوم تختنق. والكرامة تُضرب في وضح النهار .
وصمتكم شراكة .
وتجاهلكم تواطؤ .
فمن لا يدافع عن النساء حين يُضربن من أجل الخبز … لا يستحق أن يتحدث عن حقوق الإنسان.

لن تُنسى هذه الوجوه .
لن تُنسى هذه الأجساد التي سُحلت .
وسيعرف الجيل القادم، أن هناك من حاول كسر عدن … فلم تنكسر .