المقاومة: الفكرة والتشويه… نموذج حماس

د. معن علي المقابلة
تخشى الأنظمة الاستبدادية وجود معارضة ذات قاعدة شعبية وتنظيم قوي، إذ لا يُعد ذلك مجرد تحدٍ عابر، بل يتحول إلى تهديد وجودي لبنيتها. وتواجه هذه الأنظمة التنظيمات المؤثرة باتباع استراتيجية ممنهجة تقوم على التشويه والتشكيك، ليس في الممارسات فحسب، بل في النوايا والمرجعيات أيضًا، بهدف إضعاف شرعيتها وكسر صلتها بالشارع.
ُشيطن المعارضة عبر اتهامات متدرجة: أولًا بالسعي لتحقيق مصالح ضيقة لقياداتها، ثم بتصوير أفكارها على أنها دخيلة على المجتمع، أو مهددة لوحدته وتماسكه، وأخيرًا بربطها بأجندات خارجية، تُخرجها من إطار الوطنية وتضعها في خانة العمالة أو الخطر الإقليمي.
تُجسّد حركة المقاومة الإسلامية “حماس” نموذجًا واضحًا لهذا النمط من التعامل. فمنذ صعودها كلاعب مركزي في الساحة الفلسطينية، أربكت الأنظمة الرسمية العربية التي لطالما برّرت انسحابها من ساحة الصراع، أو تطبيعها مع الاحتلال، بانعدام البدائل أو غياب المشروع الواقعي. وجدت هذه الأنظمة نفسها أمام حركة مقاومة حقيقية، فبدأت تبحث عن مبررات لإضعافها سياسيًا وميدانيًا.
تلجأ هذه الأنظمة إلى اتهام حماس بالإرهاب، أو بتنفيذ أجندات خارجية لا تمتّ إلى القضية الفلسطينية بصلة، مع التركيز على علاقتها بإيران كأداة لشيطنتها في الوعي العربي. وتُستخدم هذه التهم لتبرير عدم دعم الحركة، بل والتحريض عليها في بعض الأحيان.
يُفنّد الواقع هذه السردية الرسمية بوضوح. فحماس، رغم تواصلها مع أطراف إقليمية لأسباب براغماتية، بقيت حركة مقاومة وطنية يتركز نشاطها داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة. لم تُسجّل ضدها أي أعمال تهدد دولًا عربية، ولم تخرج عن سياق المواجهة مع الاحتلال، الذي هو أصل الصراع وجوهره.
يعكس مشروع حماس امتدادًا طبيعيًا لنضال الشعب الفلسطيني، الذي تنوّعت مرجعياته السياسية والفكرية على مدار قرن من المقاومة. من القومية إلى اليسار، ومن الكفاح المسلح إلى الانتفاضة الشعبية، شكّلت هذه المرجعيات تعبيرًا عن إرادة شعب لا يزال يسعى إلى التحرر، وحماس تمثل واحدة من أبرز هذه التعبيرات.
تخاف بعض الأنظمة من حماس ليس لأنها خطر عسكري مباشر، بل لأنها تُمثل نموذجًا بديلًا للشرعية والقيادة. الخطر الحقيقي من وجهة نظر هذه الأنظمة هو في نجاح نموذج المقاومة، وما قد يحمله من إلهام للشعوب في ظل أنظمة لم تقدم إلا مزيدًا من التبعية والانغلاق والقمع.
تُحارب المقاومة هنا، لا لأنها مخطئة، بل لأنها تُذكّر بما يمكن أن يكون عليه الواقع حين تُستعاد الإرادة الشعبية، ويُعاد تعريف العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وبين الشعوب وأعدائها الحقيقيين.
ينبغي أن نُدرك أن تشويه مشروع المقاومة، كما يحدث مع حماس، لا يستهدف التنظيم وحده، بل يهدف في جوهره إلى تشويه الوعي الجمعي، وتدجين الشعوب، وتفريغ مفهوم التحرر من مضمونه الحقيقي. حين تُشيطن المقاومة، يُعاد تشكيل العقل العام ليقبل بالهزيمة باعتبارها “واقعية”، وبالاحتلال باعتباره “أمرًا واقعًا”، وبالاستبداد باعتباره “أقل الشرور”.
يتوجب علينا أن نفرّق بين النقد المشروع لأي فصيل سياسي، وبين المساهمة في هدم مفاهيم وطنية تحت ذريعة الخلاف أو الخوف. فالصراع الحقيقي ليس بين الفصائل، بل بين مشروع حرية ومشروع هيمنة. وحين يُصبح الدفاع عن الحقوق جريمة، والصمت عن القهر فضيلة، نكون قد خسرنا المعركة قبل أن تبدأ.
يبقى الأمل في وعي الشعوب، وفي قدرتها على التمييز بين من يقف معها ومن يقف ضدها، مهما تنوّعت الشعارات وتبدّلت الرايات. فالتاريخ لا يحكم بالشعارات، بل بالحقائق، ومن يقاوم الاحتلال، هو في جوهره من يُعبّر عن كرامة الأمة، حتى وإن حاولت الأنظمة طمسه أو عزله.
باحث وناشط سياسي/ الاردن
[email protected]