عبدالله العروسي: حول تصورات السياسة: ماذا نكتشف عند تأمل زيارة ترامب؟

عبدالله العروسي
تفاوتت التحليلات حول زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى منطقة الخليج بين من يراها مجرّد صفقة ابتزاز ناعم، وبين من يعتبرها فتحاً اقتصادياً وفرصة تاريخية. إلا أن ما يلفت الانتباه ليس مضمون هذه الآراء، بل طبيعة التناقض بينها، وكأننا أمام عالمين منفصلين تماماً يتحدثان عن حدث واحد.
عندما نجد من يتحدث عن تبديد ثروات بأربعة تريليونات دولار على شكل صفقات وتسويات سياسية، مقابل من يحتفي بنفس الوقائع بوصفها استثمارات مدروسة وحراكاً دبلوماسياً ذكياً، فالسؤال لا يكون: من على حق؟ بل: كيف تشكلت عقولنا بطريقة تسمح بهذا التضاد؟ ما الإطار الذي يجعل من الحدث الواحد مجالاً لقراءتين متعاكستين تماماً؟
غالباً لا نُدرك أننا نُفسّر الواقع من داخل بنيات مغلقة، نُعيد فيها إنتاج نفس أنماط الفهم القديمة، ظناً منا أننا نحاكم الواقع بينما نحن أسرى له. النُظُم الفكرية لا تُفكك نفسها من تلقاء ذاتها، والوعي لا يتحرر ما لم يقف على مسافة منهجية من أدواته نفسها.
المطلوب اليوم ليس أن نحسم النقاش لصالح هذا الطرف أو ذاك، بل أن نرتقي بمستوى فهمنا إلى طبقة ثالثة، تتجاوز الثنائية السطحية بين “مؤامرة” و”مكسب”، بين “استنزاف” و”استثمار”. هذه الطبقة لا تتعامل مع الوقائع باعتبارها حقائق نهائية، بل بوصفها تموضعات ضمن شبكة من الرموز والمصالح والسياقات التي تحتاج إلى تفكيك.
إن زيارة ترامب، في جوهرها، لم تكن مجرد حدث عابر، بل لحظة كاشفة لحقيقة العلاقة بين المركز والهامش، بين من يملك القرار ومن يُمنح الوعد. والمقالان المتضادان ليسا سوى انعكاس لهذه الثنائية التي تسكن الوعي العربي وتُنتج سردياته المتناقضة.
ما نحتاجه هو إعادة تشكيل المسافة بيننا وبين الحدث، بحيث لا نكون داخل اللعبة فقط، بل في موقع يسمح لنا برؤية قواعدها أيضاً. وهذا لا يتم إلا ببناء أدوات تحليل جديدة، ومنهجيات قراءة تتجاوز منطق التبرير أو الإدانة.
في هذا المستوى الجديد من التفكير، لا نسعى فقط لفهم السياسة، بل لإعادة إنتاج فهمنا لها من الأساس. وهنا يبدأ الفارق الحقيقي.
ومن هنا، فإن بداية الحل لا تكون بإعادة تدوير الخطابات، بل بتأسيس وعي جديد يمتلك الجرأة على مساءلة المسلمات، وبناء أدوات فكرية تتجاوز ما هو سائد، نحو رؤية أكثر استقلالاً وعمقاً.
كاتب يمني