يونس الديدي: هل يتعرض ماكرون وحده للانتقادات؟

يونس الديدي
رئيس دولة كبرى، يترجل من طائرته الرئاسية، ليُستقبل لا بالأعلام، بل بصفعة، لا من معارض، بل من شريكة عمره. في مشهد لم تتجرأ أكثر أفلام الواقعية الفرنسية على تخيّله، تلقّى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون صفعة من زوجته لحظة خروجه من الطائرة، أمام الكاميرات، وأمام العالم، وأمام التاريخ الذي لا ينسى الإهانة حين تأتي من أقرب الناس. كانت اليد ناعمة، لكنها نزلت كقنبلة صوتٍ في مدرج الدبلوماسية.
اللقطة لم تستمر إلا ثوانٍ، لكن الصمت الذي تلاها أطول من خطبته في مجلس أوروبا.
صفعة واحدة، لكنها كأنها أعادت رسم خارطة السلطة من جديد.
كانت اليد ناعمة، مغلفة بطلاء الأظافر الفرنسي، وربما تفوح منها رائحة عطر Chanel No. 5، لكنها نزلت كقنبلة صوت على مدرج الطائرة، ليس فقط لأن الصوت سُمع، بل لأن المعنى انفجر في وجوه الجميع.
اللقطة لم تستمر إلا ثوانٍ، لكن العالم جَمُد.
الصحفيون لم يعرفوا إن كانوا سيواصلون التصوير أم يخفضون الكاميرات احترامًا للرجل الذي سُلب منه هيبته على الهواء.
الابتسامات الدبلوماسية تحوّلت إلى دهشة متحجرة، ورجال الحراسة لم يتدخلوا — لأن المعتدية “ليست تهديدًا”، بل “السيدة الأولى” لم تكن تلك الصفعة فعلًا جسديًا بقدر ما كانت اختراقًا دراميًا لما نسميه “بروتوكول الصورة”، حيث تُفترض الابتسامات، وتُرتّب الأيادي، وتُخفى الخلافات تحت الماكياج السياسي. لكنها خرجت للعلن. خرجت من الكواليس إلى الشاشات. أسقطت، أو على الأقل شرّخت، ما تبقى من “الهالة الرئاسية” التي أحاط بها الرجل نفسه طيلة ولايته.
وهنا، تبدأ الحكاية.
لو لم تُصوّر الكاميرات تلك اللحظة، لخرج ماكرون مبتسمًا، تمسك زوجته بيده كأن شيئًا لم يكن. ربما كانت الصفعة ستقع في قاعة الانتظار، أو في السيارة المصفحة، أو داخل القصر الجمهوري تحت أعين المرايا المغلقة. لكن الحظ العاثر لماكرون – أو القدر العادل – شاء أن تُصفع فرنسا، ممثلة في رأسها، أمام الجميع.
والسؤال:
هل ماكرون وحده من يُصفع؟
غزة… حيث الصفعات تُخفى تحت العمائم والبيانات
ثمة صفعة أخرى، أكثر فداحة، لم تصورها الكاميرات، لكنها أكثر إيلامًا. إنها صفعة العرب لغزة. نعم، تلك التي لم تكن يدًا، بل كانت ظهرًا مستديرًا. انسحابًا صامتًا من الموقف. تخليًا متواطئًا باسم “الواقعية السياسية”، و”التهدئة”، و”التحالفات الإقليمية”، و”أولويات التنمية”.
الأنظمة العربية لم ترفع أيديها على غزة… لكنها رفعت أيديها عنها.
لم تسدد ضربة في العلن، بل مارست ما هو أشد فتكًا: الصمت المعلّب، التضليل الإعلامي، فتاوى “الفتنة”، وتقديم “التحليل الاستراتيجي” بدل الموقف الأخلاقي.
في الوقت الذي كانت فيه غزة تُقصف بالفسفور الأبيض، كانت الفضائيات العربية تنقل مؤتمرات رجال الدين وهم يشرحون كيف أن المقاومة “مغامرة”، أو “رد فعل غير متوازن”.
كان الطبل يُقرع، لا لأجل المقاومة، بل للتغطية على الصمت الرسمي. حتى أن الطبل – رمز البهلوانات في السياسة – شعر بالحرج من أولئك الذين يقرعونه بلا انقطاع ولا معنى.
الصفعة كأداة قراءة سياسية
تُعيدنا هذه المشاهد إلى مفهوم الصفعة بوصفها لحظة انكشاف.
فهي ليست مجرد فعل جسدي، بل لحظة تقطع استمرارية الزيف. لحظة سقوط القناع، أو انزلاقه عن الوجه.
تمامًا كما وصف فالتر بنيامين الصدمة في المدينة الحديثة، أو كما فهمها جيل دولوز كحدث “يحرّر المعنى من السردية الرسمية”.
صفعة ماكرون كانت إذن تمرينًا بصريًا على ما يحدث يوميًا في عالم السياسة. لكنها مرئية. أما صفعة غزة، فغير مرئية.
صفعة مخبأة تحت جلابيب الوعاظ، وتحت ربطات عنق الإعلاميين، وتحت عناوين الأخبار الباردة:
“لقاء قمة يناقش تطورات الشرق الأوسط”.
“المنطقة تمرّ بمرحلة دقيقة”.
“ندعو لضبط النفس”.
كل هذه الجُمَل ليست بيانات، بل صفعات ملفوفة بعبارات.
ما الذي يحدث حين تُخفى الصفعة؟
هنا مكمن الخطر.
لو لم تُرَ صفعة ماكرون، لخرجت زوجته تبتسم وتلوّح، ولكتب المحللون عن “الانسجام العائلي الذي يعبّر عن استقرار المنظومة الحاكمة”.
ولو لم يعرف أحد بما يجري في غزة، لقالوا إنها تنعم بالسكينة، وأن “التهدئة نجحت”.
لكن الصفعات – كما يعرف المسرحيون – لا تختفي، بل تتحوّل إلى نغمة خلفية تُغيّر المشهد كله.
إن الصفعة، أيًّا كان مصدرها، لا تقول فقط “أنا غاضبة”، بل تقول:
“كفى نفاقًا. دعونا نرى ما خلف الستار.”
خاتمة: عصر الصفعات
ربما دخلنا، من حيث لا ندري، عصر الصفعات.
ليست كلها جسدية.
بعضها مؤسسي، إعلامي، ديني، مالي، وتحالفي.
لكنها كلها تشترك في وظيفة واحدة: إسقاط القناع.
ماكرون خسر جزءًا من هالته بصفعة.
لكن من الذي يُحصي الصفعات التي تلقاها ضمير هذه الأمة؟
ومن الذي سيجرؤ على مواجهة المرآة بعد كل ذلك؟
ربما حان الوقت أن نُعيد تعريف الشرف، لا ككلمة تُتلى في الخطب، بل كقدرة على أن لا نكون الطرف الذي يصفع، أو الذي يصمت على الصفعة.
فغزة لا تحتاج من يضرب لأجلها، بل من يرفع صوته حين تُصفع.
كاتب مغربي