د. سمير خطيب: وجه الليبرالية وعلاقة الصهيونية: بين حقيقة دامية وخجل الخطاب والحل “الإنقاذي” – تجلّيات الازدواجية في المعايير بأفضل صورها.

د. سمير خطيب
في الأسبوع الأخير، صدرت عن عواصم غربية مثل باريس ولندن وأوتاوا سلسلة من التصريحات شديدة اللهجة تجاه إسرائيل. فقد لوّحت فرنسا بـ”عواقب” في حال استمرت عمليات القتل والتشريدفي غزة ، وتحدثت بريطانيا عن “القلق من تجاوز حدود الدفاع عن النفس”، بينما عبّرت كندا عن صدمة من صور الأطفال في رفح، وطالبت بوقف فوري لإطلاق النار. لكنّ هذه التصريحات، رغم تصاعد لهجتها، تبقى محصورة في نطاق الكلام، وضريبة كلامية بخسة، لأنها دون أي فعل حقيقي مثل فرض عقوبات، أو حظر تصدير السلاح، أو حتى سحب السفراء، وما نشهده ليس تحوّلًا جوهريًا في المواقف، بل “تلميع” في الخطاب يهدف إلى ترميم صورة الغرب الليبرالي بعد أن بلغت ازدواجية المعايير ذروتها منذ السابع من أكتوبر. فمنذ تلك اللحظة، اتخذت الدول الغربية موقفًا داعمًا بلا أية شروط لإسرائيل (حتى ولو كذبًا) ، مبرّرة القصف الجماعي على غزة بأنه “حق الدفاع عن النفس”، حتى في وجه آلاف القتلى من الأطفال والنساء. وقد قالها كثير من النشطاء والمفكرين بوضوح: الغرب لم يفقد بوصلته الأخلاقية مؤخرًا، بل كشفها.
الليبرالية تدافع عن سرديتها، لا عن المبادئ
الغرب لا يدافع عن إسرائيل فقط، بل عن سرديته الليبرالية ذاتها؛ عن حقه في أن يبقى ممسكًا براية “حقوق الإنسان” و”القانون الدولي ” ولو كانت ملوثة بدم الأبرياء. ورغم الضجيج الإعلامي والتصريحات الدبلوماسية المتأخرة، فإن غياب أي إجراء فعلي يجعل من هذه التصريحات مجرد ضريبة كلامية بلا أثر حقيقي.وهذا ما يؤكد دقة كلام نعوم تشومسكي: “الحديث عن المبادئ في السياسة الغربية ليس سوى واجهة لحماية المصالح.”
“نُنقذ إسرائيل من نفسها”:
(ذريعة الإنكار)
بعض هذه التصريحات بات يُبرَّر ضمنيًا على أنه محاولة “لإنقاذ إسرائيل من نفسها”، خوفًا من أن يُفجّر السلوك الإسرائيلي المنفلت كل ما بنته الليبرالية الغربية من سرديات.
جدعون راشمان (فاينانشال تايمز): “التحدي الأكبر ليس الدفاع عن إسرائيل، بل الدفاع عن العالم الليبرالي من تداعيات تصرفاتها.”
أي أن ما يفعله الغرب ليس الا مجرد محاولة لإنقاذ الابنة المتمردة – الصهيونية – قبل أن تحرق البيت الليبرالي كله.
صراع بين الليبرالية وابنتها الصهيونية
للمرة الأولى، يظهر صراع علني بين الليبرالية الغربية والصهيونية السياسية، وذلك أن الليبرالية – نظريًا – قائمة على المساواة وكرامة الإنسان، بينما الصهيونية تأسست على التمييز العرقي والحصرية الدينية، وقد ظل هذا التناقض مخفيًا طويلًا تحت غبار “الذنب الأوروبي” بعد المحرقة، لكنّ مذبحة غزة جعلته ينفجر على سطح الخطاب الغربي، ولهذا يمكن القول أن الصهيونية اليوم لا تهدد الفلسطينيين فقط، بل تهدد أيضًا ما تبقى من مصداقية الغرب الليبرالي. لذلك، لا بد من ايجاد “حل وسط” يحافظ على الشكل، دون المساس بالمضمون.
نتنياهو: تصوّر “الفداء التكتيكي” لإنقاذ المنظومتين( مجرد تصور )
في ظل الانكشاف الأخلاقي العميق الذي تعاني منه المنظومة الغربية، وتحديدًا الليبرالية السياسية التي تدّعي الدفاع عن “حقوق الإنسان”، يبرز تصور يُتداول في الكواليس الإعلامية والسياسية كـ”حل إنقاذي” مزدوج: التضحية بنتنياهو. ليس كإدانة فعلية للجرائم المرتكبة، بل كإجراء رمزي يُبرء ساحة الليبرالية من الاتهام، ويمنح الصهيونية فرصة لإعادة التموضع دون المساس بجوهرها.
يُطرح نتنياهو، في هذا السياق، لا كشخص قاد حملة تدمير وتهجير وقتل ضد غزة وسكانها فحسب، بل كـ”انحراف فردي” داخل منظومة يُفترض أنها قابلة للإصلاح. إن تحميله وحده وزر المجازر، وتحويله إلى هدف للغضب الدولي، هو في جوهره إعادة إنتاج مريحة للأسطورة الليبرالية: أن الخطأ يكمن في الأفراد لا في البنى، وفي الزعيم لا في الأيديولوجيا….
قد تُفتح محكمة، أو يُلوَّح بعزله، أو يُدفَع للتنحي عبر توافقات داخلية وخارجية، لكن كل ذلك لا يعني – ولن يعني – أن المنظومة ستُراجع نفسها. بل على العكس: ستُقدَّم هذه “المحاسبة الشكلية” كدليل على “حيوية الديمقراطية الإسرائيلية”، في حين تبقى السياسات على حالها، والمقتلة مستمرة بأدوات أكثر تهذيبًا.
وهذا السيناريو يخدم ثلاثة أطراف في آنٍ واحد:
الليبرالية الغربية التي تبحث عن كبش فداء تُبرّئ به ذاتها وتستعيد به شيئًا من مصداقيتها.
الصهيونية السياسية التي تُعيد إنتاج نفسها عبر واجهة قيادية “أقل تطرفًا”.
المؤسسة الإسرائيلية ذاتها التي ترى في نتنياهو عبئًا أصبح اسمه مرادفًا للفظائع.
*****زيغمونت باومان: “حين تخطئ المنظومة، تبحث عن فرد تُعلّق عليه الفشل، لتبقى هي بلا مساس.”
إنه فداء تكتيكي لا يهدف إلى العدالة، بل إلى تجميل الجريمة وتوزيع المسؤولية بطريقة تترك النظام سليمًا، وقابلًا للاستمرار.
الولايات المتحدة: بين الدعم المطلق والتضحية التكتيكية
الولايات المتحدة تبقى العنصر الأكثر حسمًا. فمنذ السابع من أكتوبر، منحت إدارة بايدن إسرائيل دعمًا مطلقًا، متجاوزة بذلك كل مواثيق القانون الدولي. لكنها، في الأسابيع الأخيرة، بدأت تُظهِر علامات حرَج استراتيجي، خصوصًا مع تنامي الانتقادات داخل الحزب الديمقراطي، وتراجع التأييد الشعبي خاصة بين الشباب.
من هنا، قد تنظر واشنطن إلى التضحية بنتنياهو كـ”حل وسط”: تضمن به استمرار الدعم لإسرائيل، وتُخفف الضغط الداخلي والخارجي، دون الحاجة لمراجعة شاملة. لكن حتى هذا السيناريو لن يُطبّق إلا بتنسيق كامل مع المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، وربما بدفع مباشر منها، إذا رأت أن بقاء نتنياهو يهدد مصالحها الاستراتيجية.
باختصار، التضحية بنتنياهو قد تحدث – لكن لا كإجراء عدلي – بل كجزء من صفقة دولية لإعادة تعويم النظام، وليس لتفكيكه.
الخاتمة المعروفة:
الغرب لا يراجع مبادئه، بل يرمم واجهته. وإذا تمّت محاكمة نتنياهو، فستُقدَّم لا كمحاسبة لنظام إجرامي، بل كقصة “زعيم خرج عن السيطرة”. وسيُنسى أن ما جرى كان نتيجة منظومة كاملة من التحريض، الاحتلال، والعقاب الجماعي. وفي النهاية، سيبقى الدم هو الثمن، وتبقى الرواية الرسمية تتحدث عن “الخطأ في الفرد”، لا في الفكرة التي أنتجته.