حمد التميمي: إعادة بناء سوريا: بين الفرصة الأخيرة وأكبر التحديات

حمد التميمي: إعادة بناء سوريا: بين الفرصة الأخيرة وأكبر التحديات

 

حمد التميمي
في عام 1945، خرجت أوروبا من الحرب العالمية الثانية منهكة، مدنها مدمرة واقتصاداتها منهارة، وكانت الحاجة إلى إعادة البناء أمراً وجودياً وليس مجرد خيار سياسي. وسط هذا الدمار، ظهر مشروع تاريخي يُعرف بـ”خطة مارشال”، وهي مبادرة أمريكية قدمت مساعدات مالية واستثمارية ضخمة ساهمت في إعادة إحياء أوروبا وتحويلها إلى قوة اقتصادية مستقرة. لم يكن الأمر مجرد تمويل، بل كان استثمارًا في الإنسان قبل البنيان، حيث تم بناء المدارس والجامعات والمستشفيات، وتطوير الصناعات والبنية التحتية، مما وضع القارة على مسار جديد نحو المستقبل.
واليوم، وبعد سنوات من الحرب والدمار، تجد سوريا نفسها في موقف مشابه، حيث لم يقتصر الخراب على المباني والمدن، بل امتد إلى الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. تشير التقديرات إلى أن تكلفة إعادة الإعمار في سوريا تتراوح بين 300 إلى 500 مليار دولار، وهو رقم يعادل خمسة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي للبلاد قبل الحرب. كما أن حجم الدمار في المدن السورية هائل، حيث بلغ عدد المنازل المدمرة بالكامل 64,282 منزلاً، بينما تضررت 71,328 منزلاً جزئياً، إضافة إلى 6.9 ملايين طن من الأنقاض الخرسانية التي تحتاج إلى إزالة.
لكن إعادة إعمار سوريا ليست مجرد فكرة طموحة، بل ضرورة عربية وإقليمية، إذ لا يمكن تحقيق استقرار شامل للمنطقة دون استعادة سوريا لمكانتها الطبيعية. ولعل الخطوة الأولى نحو ذلك تكمن في تبنّي استراتيجية تعيد صياغة المشهد السوري بالكامل، بحيث لا تقتصر الجهود على بناء المدن المهدمة، بل تتوجه نحو الاستثمار في الإنسان، من خلال تطوير التعليم، تعزيز الرعاية الصحية، وإرساء دعائم اقتصاد متماسك يوفر فرص عمل مستدامة للأجيال القادمة.
ولكي تنجح عملية إعادة الإعمار، لا بد من تحريك عجلة الاقتصاد، فالاعتماد على المساعدات الخارجية لا يمكن أن يكون حلاً مستدامًا، بل يجب أن تتوجه الجهود نحو إطلاق مشاريع إنتاجية تعزز الاستقلال الاقتصادي، وتوفر فرص عمل تُمكّن السوريين من بناء حياتهم من جديد. فتطوير القطاع الصناعي والزراعي، إلى جانب دعم المشروعات الصغيرة، سيُسهم في إعادة هيكلة الاقتصاد السوري ليصبح أكثر قدرة على مواجهة التحديات.
لكن إعادة البناء لا تقتصر على الجوانب المادية فقط، إذ إن سوريا بحاجة إلى بيئة سياسية واجتماعية جديدة تعزز الحريات وتُعيد الثقة بين المواطنين. وهنا يأتي دور الإعلام المستقل، الذي يجب أن يكون صوتًا للحقيقة، لا أداة للاستقطاب والتلاعب السياسي. فالمرحلة القادمة تتطلب إعلامًا نزيهًا يساعد في إعادة ترتيب الأولويات المجتمعية، ويمثل منبرًا يُعبر فيه السوريون عن رؤاهم وطموحاتهم.
إن الدول العربية تمتلك الموارد والخبرات اللازمة لتحقيق هذه الرؤية، لكن ما ينقصها هو الإرادة لتجاوز حالة التردد والدخول في مرحلة الفعل. فبدلًا من الاكتفاء بمتابعة الأوضاع من بعيد، يمكن للعرب أن يكونوا جزءًا من الحل، عبر تقديم دعم شامل لسوريا لا يقتصر على المساعدات الطارئة، بل يمتد إلى مشاريع طويلة الأمد تعيد هذا البلد إلى المسار الصحيح.
ورغم سنوات الحرب الطويلة، يبقى الإنسان السوري العنصر الأساسي في هذا المشروع، فالشعب الذي صمد رغم الظروف الصعبة قادر على إعادة بناء بلده إذا وجد الدعم الحقيقي. المجتمع العربي أمام مفترق طرق، فإما أن يكون جزءًا من حل جذري يعيد سوريا إلى مكانتها، أو يترك هذا البلد عرضة للصراعات التي قد تستمر لعقود قادمة.
نجاح مشروع عربي لإعادة إعمار سوريا لن يكون مجرد نجاح محلي، بل قد يكون بداية لنهضة عربية شاملة، حيث يتم تأسيس نموذج جديد للتعاون الإقليمي يقوم على الاستدامة والتنمية الحقيقية، وليس فقط المصالح السياسية المؤقتة، بحيث تتحول سوريا من رمز للأزمة إلى نموذج للنهضة العربية الجديدة.
الأوطان لا تُبنى بالكلمات، ولا تستعاد بالمواقف الحيادية، بل تُبنى بالإرادة الحقيقية والمشاريع الفعلية التي تغيّر حياة الناس. سوريا اليوم ليست مجرد ملف سياسي معقد أو أزمة إنسانية مؤقتة، بل هي اختبار حقيقي للعالم العربي: هل سنقف مكتوفي الأيدي كما حدث في الماضي، أم سنخلق واقعًا جديدًا؟
الفرصة لا تزال قائمة، لكن الوقت لا يعمل لصالحنا. كل يوم يمر دون خطوات فعلية نحو إعادة الإعمار، يترسّخ الدمار أكثر، وتزداد معاناة الشعب السوري. الخيار واضح: إما أن نكون جزءًا من الحل، أو أن نترك سوريا ضحية أخرى للخذلان والصراعات المستمرة.
إذا كان التاريخ قد علّمنا شيئًا، فهو أن النهضة لا تنتظر من يتردد… بل تُبنى بمن يملك الجرأة ليحلم، والقدرة ليحقق حلمه. ربما يكون هذا المشروع هو نقطة التحول، وربما يكون البداية لنهضة عربية حقيقية. ولكن السؤال الذي يجب أن نطرحه الآن ليس “هل يمكننا فعل ذلك؟” بل “متى سنبدأ؟”.
كاتب قطري