د. جمال الهاشمي: التوتر بين أمريكا والصين والاحتمالات المستقبلية: تحليل للتغيرات العالمية ومنطقة الشرق الأوسط

د. جمال الهاشمي: التوتر بين أمريكا والصين والاحتمالات المستقبلية: تحليل للتغيرات العالمية ومنطقة الشرق الأوسط

 

د. جمال الهاشمي
لطالما شكل الصراع بين القوى العظمى أحد المحركات الأساسية في تشكيل النظام الدولي،  واصبح الصراع اليوم أكثر تعقيدا من أي وقت مضى فلم تعد الحروب تخاض على أراض بعيدة كما كان من قبل وإنما امتد إلى الفضاء السيبراني وعبر الأسواق وفي سلاسل الإمداد وفي المعايير التكنولوجية.
ويمثل التوتر المتصاعد بين الولايات المتحدة والصين لحظة تاريخية فارقة نحو معالم جديدة للعالم، في سياق حتمي بين حضارتين متنافستين ورؤيتين متنافرتين للعالم.
واذا كانت الولايات المتحدة تنظر إلى النظام الدولي بوصفه نتاجا لانتصارها بعد الحرب الباردة فإن الصين تراه مرحلة مؤقتة لهيمنة غير متوازنة ينبغي تصحيحها بعودة التاريخ إلى مساره الطبيعي،  وبين هذين المنظورين تتشكل معضلة الجغرافيا السياسية التي تتطلب فنا في إدارة التوازن لا تصلب في فرض الهيمنة.
فمن أين تستمد الصين حضارتها ورؤيتها للعالم؟
إذا عدنا إلى مسار الصين عبر آلاف السنين لم تكن دولة توسعية بالطريقة الغربية، ولم تسع لبسط نفوذها خارج حدودها التقليدية إلا حين تعرضت للتهديد، إذ كانت التعاليم الكونفوشيسية  تمثل  الوسطية الحضارية، و تفضل  هذه التعاليم التفوق الأخلاقي على الغزو والهيمنة، ومنذ قرن الإذلال (1840–1949)  تراجعت أمام القوى الاستعمارية مما رسخ في وجدانها الجماعي شعورا بضرورة النهوض واستعادة مكانتها المستحقة.
ومع إصلاحات دنغ شياو بينغ في أواخر السبعينيات تبنت الصين نهج الإخفاء والانتظار؛ بمعنى تنمية القدرات دون استفزاز الغرب، إلا أن عهد شي جين بينغ شهد تحولا نوعيا، إذ باتت الصين أكثر انفتاحا في إعلان تطلعاتها العالمية عبر مبادرة الحزام والطريق وتحديث جيشها وتأكيد سيادتها في بحر الصين الجنوبي.
ومن منطق الهيمنة الأمريكية بوصفها القوة المنتصرة في الحربين العالميتين والحرب الباردة طورت رؤية أمن قومي قائمة على منع ظهور منافس مهيمن في أوراسيا.
 وهذا المنطق يفسر تدخلاتها في مناطق عدة من العالم.. لكن ظهور الصين يطرح تحديا مختلفا ليس لكونها قوة عسكرية واقتصادية بل لأنها حضارة عريقة تمتلك نموذجا بديلا لإدارة العالم لا يعتمد على الديمقراطية الليبرالية، وهنا نشاهد تصريح ترامب أنه لا يريد فرض النظام الديمقراطي الأمريكي على العالم بالقوة، لأنه يدرك أن استغلال الديمقراطية لم يعد مجديا في ظل تراجع القيم الأمريكية عالميا، بروز تحديات كبيرة أمام فرض قيمها أو هيمنتها .
لذلك ترى اشنطن في تصاعد النفوذ الصيني تهديدا مباشرا لمبادئ النظام الليبرالي الذي أسسته بعد 1945 وتخشى أن يؤدي التفوق التكنولوجي الصيني في مجالات الذكاء الاصطناعي والاتصالات إلى إعادة تعريف معايير القوة والنفوذ عالميا.
وهذان العملاقان اللذان كانا يفصل بينهما القارات أصبحا في مواجهة حتمية في مناطق الاحتكاك الجيوجغرافي  حيث تمثل تايوان خط التماس الأخطر إذ تعتبرها الصين جزءا لا يتجزأ من أراضيها بينما تلتزم أمريكا بسياسة الغموض الاستراتيجي؛ فهي لا تؤيد الاستقلال ولكنها تتبي سياسة الدفاع عنها.
ويليها بحر الصين الجنوبي التي تشيد فيه الصين مدنا صناعية وقواعد عسكرية وتحديدا في الجزر المتنازع عليها مما أثار قلق دول الجوار والولايات المتحدة التي تؤكد على حرية الملاحة.
أما على النطاق التكنولوجي فإن الحرب التكنولوجية و حظر الشركات الصينية (مثل هواوي) والدعوة لفك الارتباط التكنولوجي يعكس قلقا أمريكيا من فقدان القيادة في المستقبل.
ونظرا لذلك برزت الحرب الاقتصادية والجمركية وفرض الرسوم المتبادلة الذي أظهر هشاشة العولمة وأعاد مفاهيم كانت سائدة خلال القرن العشرين حول الحمائية الاقتصادية، والعولمة التي كانت تشكل خطرا على الدول النامية أصبحت اليوم تهدد القوى العظمى.
فما هي المسارات والسيناريوهات المحتملة ؟
وفقا لاستقراء الواقع وتحولات القيم والثقافة والتصريحات السياسية والحركة على الواقع نضع عدة احتمالات أو سيناريوهات :
سيناريو المواجهة الباردة الممتدة:
قد تدخل القوتان في سباق تكنولوجي وعسكري على غرار حرب النجوم مع السوفيت  و تكوين تكتلات إقليمية منافسة وفي هذا السيناريو تتحول مناطق مثل إفريقيا وجنوب شرق آسيا والشرق الأوسط إلى مسارح تنافس بالوكالة هذا المسار لا يؤدي إلى حرب مباشرة لكنه يهدد استقرار النظام العالمي لأنها ستكون هذه المناطق مجالا للصراع بالوكالة بين القوتين المتنافستين.
سيناريو الاحتواء المتبادل والتفاوض المشروط
انطلاقا من مخاطر الصراع والإدراك السياسي للدوليتين ستتفقان على بناء حوكمة دولية جديدة تحكم الذكاء الاصطناعي و التجارة وأمن الفضاء، و يعاد تشكيل منظمة التجارة العالمية لتضم قواعد أكثر توازنا وغيرها من المؤسسات الدولية، من خلال التوصل إلى عقد ميثاق استراتيجي يحدد مجالات النفوذ وحدود الاشتباك، هذا السيناريو أقرب لسياسة الوفاق التي انتهجتها أمريكا مع موسكو في سبعينيات القرن الماضي.
سيناريو الاندماج البناء أو الاشتباك المدار
وفي هذا الاحتمال تقبل الولايات المتحدة بالصين شريكا لا غنى عنه في قضايا المناخ و الطاقة و الأمن الصحي والاستقرار المالي بحيث تتغير الاستراتيجية من الكبح إلى الإدماج في نظام دولي أكثر تعددية وهذا يتطلب تحولا عميقا في الخطاب السياسي داخل واشنطن، وهو أمر بالغ الصعوبة لا سيما مع وجود نخبة أولغارشية تدير النظام.
سيناريو الانفجار
وهو السيناريو الأسوأ الذي قد ينجم عن خطأ في الحسابات و استفزاز ميداني أو تحول داخلي في أحد البلدين مما قد يؤدي إلى صدام مباشر في تايوان أو بحر الصين الجنوبي ومثل هذه الحرب قد تبدأ محدودة ولكن من الصعب التنبؤ بنطاقها خاصة إذا استخدمت فيها قدرات سيبرانية واسعة النطاق أو أسلحة متقدمة.
ويبقى تساؤل آخر عن مكانة الشرق الأوسط بينهما أين موقع من التوازن أو الصراع الدائر بين القوتين الحضاريتين؟.
قد يخطئ من يظن أن الشرق الأوسط مسرح ثانوي في الصراع بين واشنطن وبكين، على الرغم من أن المنطقة ليست ساحة اشتباك مباشر بين القوتين إلا أنها تمثل مجالا حيويا لتوسيع النفوذ والاستحواذ على أوراق القوة الجيوسياسية.
ونحن نراقب الآن ومنذ عقدين كان الشرق الأوسط حجر الزاوية في الاستراتيجية الأمريكية، لكنه مع التحولات في أولويات واشنطن  خصوصا التوجه نحو آسيا لمواجهة الصين بدا وكأن أمريكا تنسحب من المنطقة إلا أن الحقيقة أدق من ذلك حيث أن الولايات المتحدة لم تغادر وإنما تعمل على أعادة تموضعها، وما تزال واشنطن الحليف الأمني الرئيسي لدول الخليج وتحتفظ بقواعد عسكرية حيوية في قطر والبحرين والكويت.
 لكنها باتت تتوقع من شركائها الإقليميين لعب دور أكبر في تأمين أمنهم وهو ما يدفع بعضهم إلى تنويع شراكاتهم  بما في ذلك باتجاه بكين.
والصين لا تسعى إلى فرض نفوذ عسكري مباشر في الشرق الأوسط لكنها تنسج علاقات اقتصادية واستراتيجية عميقة من أهم أدواتها التالية:
الطاقة: تعتمد الصين على الخليج لتأمين أكثر من 40% من وارداتها النفطية لذا فإن أمن الملاحة في مضيق هرمز بالنسبة لها ضرورة وجودية.
البنية التحتية: من خلال مبادرة الحزام والطريق إذ تستثمر الصين في موانئ ومناطق صناعية من قناة السويس إلى ميناء حيفا مرورا بمواني عمان.
التكنولوجيا والاتصالات: تعرض بكين على دول المنطقة بدائل تكنولوجية تنافس الغرب من شبكات 5G إلى أنظمة المراقبة.
وهنا يقع الشرق الأوسط بين طرفي معادلة صعبة وغير متوازنة، وأن مفهوم عدم الانحياز لم يعد ممكنا، حيث دول الشرق الأوسط نفسها في موقع حرج؛ فهي تعتمد على أمريكا أمنيا وتفتح أبوابها للصين اقتصاديا، و هذا التوازن العملي قد ينجح طالما بقي التوتر بين واشنطن وبكين دون انفجار. . لكن مع تصاعد الضغط الأمريكي على الدول لقطع بعض روابطها مع الصين خصوصا في مجالات حساسة كتكنولوجيا الاتصالات سيطلب من العواصم العربية اتخاذ مواقف واضحة وهو ما قد يضعف حيادها الاستراتيجي ويدخلها في أعاصير من الصراعات البينية بين الحضارتين .
ومن منظور استراتيجي فإن الشرق الأوسط يمتلك القدرة على لعب دور الوسيط لا الضحية لا سيما وأن الدول الكبرى بحاجة إلى الطاقة والملاحة والاستقرار و يمكنه استخدام موقعه لتقريب وجهات النظر أو على الأقل تحصين نفسه من تبعات المواجهة، وهذا الذي برز جليا في دبلوماسية دول الخليج والسعودية ولعل دخول بعض الدول العربية في تكتلات متعددة مجموعة البريكس و شراكات آسيوية هو محاولة مبكرة لصياغة سياسة خارجية أكثر استقلالا.
أخير حين يواجه العالم صراعا بين عملاقين لا يمكن للدول المتوسطة أن تبقى على الهامش فالشرق الأوسط بحكم موقعه وثرواته وأزماته سيكون إما لاعبا ماهرا في لعبة التوازنات والمباريات الكبرى أو ساحة لألعاب القوى، و من محاور الحرب الباردة إلى توازنات الشرق في السبعينيات  فإن الاستباق الاستراتيجي أفضل من ردود الأفعال المتأخرة.
إن المسألة الحاسمة ليس في من يفوز؟  بل في كيف نمنع الخسارة الشاملة؟ فالقوة العظمى لا تقاس بقدرتها على الانتصار وإنما بقدرتها على إدارة العالم وإنقاذه من الانهيار.
والصين وأمريكا بحاجة إلى صفقة استراتيجية في توازن القوى الذي حافظ على السلام في أوروبا قرابة قرن بعد مؤتمر فيينا و إن لم تصمم هذه الصفقة الآن فإن النظام العالمي قد يعاد تشكيله على وقع الفوضى والعبثية من بين العبث تتشكل حضارات جديدة لتصنع قرآنا آخر من السلام ، فالحرب معلم من معالم السلام والعدل حينما لا يكون الجميع في اللعبة أو وقود لها.

مدير المعهد الفرنسي للدراسات والبحوث وشؤون الأوسط