د. نصر سيوب: بذور الرحمة خلال الأزمات: تحليل للإنسانية في الإبداع الطفولي من خلال قصة “القطة والعاصفة” للموهبة الشابة: جهاد سيوب.

د. نصر سيوب: بذور الرحمة خلال الأزمات: تحليل للإنسانية في الإبداع الطفولي من خلال قصة “القطة والعاصفة” للموهبة الشابة: جهاد سيوب.

 

 

قراءة وتحليل ذ. نصر سيوب

“اَلْقِطّةُ والْجوُّ الْعاصَفُ”:

في إحدى الليالي الماطرة والعاصفة، كنت جالسا عند النافذة أراقب وأتربص بكل ما يحدث في الخارج. في ذاك الأوان كان الناس جميعهم في ديارهم محتمين من الجو العاصف ومن قطرات المطر التي تبدو كالإبر الحادة، فبعد ذلك أشارت بي عيناي إلى قطة صغيرة وهي في حالة يُرثى لها، أشفقت لحالها وأسرعت في الخروج لإحضارها إلى المنزل.
أخذتها مباشرة إلى المطبخ وقمت بتنشيفها وجلبت لها الطعام، ثم أخذتها إلى السرير وغطيتها بغطاء دافئ، وكل هذا دون علم والديّ. فبقيت القطة في سريري تنعم بنوم هانئ حتى توقفت الأمطار، وأشرقت الشمس وقوس قزح يزين السماء، فأخرجتها من المنزل سعيدة شاكرة.
               ************
ــ مقدمة :
  يمثل أدب الطفل نافذة فريدة على عوالم الصغار، ويكشف عن براءتهم، وأحلامهم، وقدرتهم الفطرية على استيعاب قيم إنسانية نبيلة. وعندما ينطلق الإبداع من قلب طفل كاتب، تتجلى هذه العوالم بصدق وعفوية مضاعفة، حاملةً رؤىً صافيةً وتعبيراتٍ آسرةً. فقصة “القطة والجو العاصف” للمبدع الصغير جهاد سيوب، البالغ من العمر حين كتبها إحدى عشرة سنة، ليست مجرد حكاية بسيطة عن إنقاذ حيوان، بل هي شهادة حية على قوة التعاطف المتأصلة في نفس الطفل المبدع. وفي هذه القراءة التحليلية، سنتوقف أمام هذه القصة القصيرة لنستكشف كيف استطاع هذا القلم الصغير أن يرسم لوحة إنسانية مؤثرة، مبرزاً أهمية الرحمة والمبادرة في مواجهة قسوة الظروف، ومؤكدين على القيمة الاستثنائية للإبداع الصادر من عقول وقلوب الأطفال الواعدة. إنها رحلة في براءة الكلمات وعمق المعاني التي تتجاوز حدود العمر.

ــ في أحضان القصة :
1 ــ دراسة العنوان :
العنوان يتكون من مبتدأ مرفوع “القطةُ”، و”واو” عطف، ومعطوف “الجوُّ”، ونعت (العاصفُ) تابع لمنعوته في الرفع. والخبر متن القصة أو يمكن أن يكون شبه الجملة والنعت: “في ليلة ماطرة”.
ومن الناحية الدلالية فالعنوان فيه تضاد بين عنصرين؛ القطة الكائن الضعيف، والصغير، وهي رمز للبراءة والحاجة إلى الحماية. وبين العاصفة/ الجو العاصف، القوة الطبيعية القاسية التي تهدد الاستقرار والأمان. فالعنوان يُظهر صراعا بين الضعف البشري/الحيواني وقسوة الظروف الطبيعية، هذا التضاد يُبرز فكرة التحدي وكيف يمكن للرحمة أن تتغلب على المصاعب.
كما يمكن أن ترمز القطة إلى “الطفل نفسه”، حيث يشعر الكاتب الصغير بالضعف أحيانا في عالم الكبار، أو قد تمثل أي كائن يحتاج إلى رعاية. والجو العاصف قد يُذكِّر بالمخاوف اليومية التي تواجه الأطفال (كالعقاب، والخوف من الفشل، أو حتى التغييرات المفاجئة).
فالعنوان رغم بساطة لغته إلا أنها تناسب عمر الكاتب، وتُظهر وعيا مبكرا بفن اختيار العناوين الجذابة.

2 ــ الأحداث :
هناك حدث رئيسي متمثل في ملاحظة الراوي/الكاتب لِقطة صغيرة من نافذة منزلهم تعاني في جو عاصف خلال ليلة ماطرة، وشعوره بالشفقة تجاهها، وقيامه بمساعدتها وإيوائها في فراشه حتى زوال الخطر.

3 ــ الشخصيات :
 ــ الراوي “الطفل” : هو الشخصية المحورية في القصة، يتميز بحساسيته العالية، ورحمته تجاه الحيوانات، وقدرته على اتخاذ المبادرة لمساعدة المحتاج، وتصرفاته تدل على نضج عاطفي وإنساني مبكر.
 ــ القطة الصغيرة : تمثل الكائن الضعيف والمحتاج إلى المساعدة، وحالتها التي يُرثى لها تثير مشاعر التعاطف لدى الراوي والقارئ.
 ــ الناس : يمثلون الخلفية التي تبرز فعل الخير الذي قام به الراوي، وكونهم “جميعهم في ديارهم محتمين” يوضح أن موقف الراوي كان استثناءً نابعا من شعوره بالمسؤولية.
 ــ الوالدان (غياب ضمني) : عدم علم الوالدين بفعل الراوي يضيف بُعدا للقصة، حيث يشير إلى استقلالية قراره وتحمله لمسؤولية فعلته دون خوف من التوبيخ، مما يعزز صورة الطفل الرحيم والمبادِر.

4 ــ الزمان والمكان :
١ ــ الزمان : عبارة “في أحد الليالي الماطرة والعاصفة” تحدد زمان القصة وتخلق جوا من الشدة والصعوبة، مما يجعل محنة القطة أكثر وضوحا وتأثيرا، والليل يزيد من الإحساس بالوحدة والخطر.

٢ ــ المكان : يبدأ المشهد من داخل المنزل بجوار النافذة، وهو مكان آمن ومريح يتناقض مع الخارج العاصف. ثم ينتقل الفعل إلى الخارج لإحضار القطة، ثم إلى المطبخ للرعاية الأولية، وإلى السرير لتوفير الدفء والأمان. هذه التنقلات المكانية تبرز مراحل إنقاذ القطة وتوفير الحماية لها.

5 ــ اللغة :
تتميز لغة القصة بالبساطة والوضوح والسلاسة، مما يجعلها مناسبة لعمر الكاتب والجمهور المستهدف المحتمل (الأطفال)، فكلماتها مباشرة وتعبر عن المعنى بصدق.
كما استخدم الكاتب أوصافا حسية مع بعض الصور البلاغية التي تعطي للقصة لمسة جمالية، مثل قوله : (قطرات المطر التي تبدو كالإبر الحادة)، مما يساعد القارئ على تصور الجو العاصف والشعور بحدة الموقف الذي تعرضت له القطة. بالإضافة إلى تركيزه على الأفعال الماضية أثناء السرد التي جاءت متسلسلة وسريعة (أخذتها ــ قمت بتنشيفها ــ جلبت لها الطعام ــ أخذتها إلى السرير ــ غطيتها)، مما يعكس سرعة استجابة الراوي لنداء قلبه ورغبته في مساعدة القطة.

6 ــ أساليب السرد :
اِعتمد الكاتب على ضمير المتكلم أثناء السرد مما يجعل الحدث حميميا ويساعد على بناء علاقة قوية بين القارئ والشخصية، وتوفير رؤية داخلية للشخصية، وتقديم تجربة شخصية للقارئ. والسرد بهذه الطريقة يفيد عدم إدراك سوى ما تدركه الشخصية التي هي مرجع ضمير المتكلم، وهذه فائدة عظيمة تجعل القصة كلها أقرب إلى القبول والتصديق، بجريانها وفق المجرى الطبيعي للأمور في الحياة.

7 ــ الرموز :
القصة رغم احتوائها على مجموعة من الرموز إلا أنها قد لا تكون مقصودة بشكل واعٍ من الكاتب لصغر سنه، ولكن يمكن استخلاصها من خلال سياق الحدث وتطوره، مما يعطي للقصة بُعدا أعمق يتجاوز مجرد سرد بسيط لإنقاذِ قطةٍ :
ــ القطة الصغيرة : سبق ذكر رمزيتها خلال دراسة العنوان والشخصيات.
ــ الجو العاصف : يرمز إلى الظروف القاسية والصعوبات والمِحن، وقد يرمز إلى التحديات التي تواجه الأفراد والمجتمع ككل.
ــ النافذة : تمثل موقع المراقبة والترقب، وقد ترمز إلى العزلة في البداية لتصبح نقطة عبور إلى فعل الخير.
ــ المنزل الدافئ : يرمز إلى الأمان والحماية والملاذ.
ــ السرير والغطاء الدافئ : يرمزان إلى الراحة والأمان والحماية من الأذى، كما يمثلان فِعْل الإحسان الكامل.
ــ توقُّف الأمطار وشروق الشمس : يمثلان زوال الخطر، والنهاية السعيدة، والأمل.
ــ قوس قزح : يرمز إلى الجمال الذي يأتي بعد الصعوبات، كما يرمز إلى بداية جديدة، أو وعد بالخير.
ــ الخروج من المنزل : يرمز إلى العودة للحياة الطبيعية بعد التحرر من الخطر.
ــ شُكْر القطة : يرمز إلى الامتنان والتقدير لفعل الخير.

8 ــ الرسائل :
تحمل القصة مجموعة من الرسائل؛ منها أهمية التعاطف مع الكائنات الضعيفة والرحمة بها، والقدرة على اتخاذ قرارات إنسانية دون انتظار مقابل، ودور المبادرات الفردية في تقديم المساعدة وفي خلق تغيير إيجابي، وعدم التردد في فعل الخير حتى لو كان بسيطا.

 ــ الخاتمة :
تُعد قصة “القطة والجو العاصف” عملا أدبيا صغيرا ولكنه يحمل في طياته رسالة إنسانية كبيرة. فبأسلوب بسيط وعفوي، ينجح الكاتب الصغير في تصوير قيمة التعاطف والرحمة، ويقدم نموذجا إيجابيا لقوة الفعل الفردي في إحداث فرق في حياة الآخرين وإن كانت قطة. إنها قصة تزرع بذور الخير في نفوس القراء، وتذكرنا بأهمية اللطف والإحسان تجاه جميع الكائنات الحية. فعلى الرغم من صغر سن الكاتب، إلا أن قصته تحمل وعيا إنسانيا عميقا يستحق التقدير والتأمل.