السودان يعاني… والعالم يراقب بصمت

د. عبد الناصر سلم حامد
منذ اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023، تحوّل البلد إلى مسرحٍ للمعاناة الجماعية، حيث يُسحق المدنيون بين رحى حربٍ لم يشعلوها وصمتٍ عالمي يكاد يكون تواطؤاً. وبعد عامين على اندلاع النزاع الدموي بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، بلغت المأساة أوجها، فيما يواصل العالم تجاهله لأحد أعقد وأسوأ الكوارث الإنسانية في إفريقيا المعاصرة.
بحسب لجنة الإنقاذ الدولية، فإن أكثر من 150 ألف شخص قُتلوا حتى أوائل عام 2025، أغلبهم من المدنيين. وتشير مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى أن أكثر من 13 مليون شخص أُجبروا على الفرار، من بينهم 8.8 مليون نازح داخلياً، ما يجعلها أكبر أزمة نزوح داخلي في العالم لعام 2025.
تحولت مدن كبرى مثل الخرطوم ونيالا وأم درمان إلى ساحات حربٍ محترقة. البنية التحتية الأساسية—الكهرباء، المياه، المستشفيات—انهارت بالكامل. ولم يكن ذلك نتيجة عرضية للحرب، بل إستراتيجية ممنهجة لخنق الحياة المدنية. تؤكد تقارير مستقلة وشهادات ميدانية أن منشآت الكهرباء والجسور وشبكات الاتصالات استُهدفت عمدًا بالقصف الجوي والهجمات البرية. يقول طبيب ميداني في نيالا: “كانوا يعرفون تمامًا أين يضربون. استهدفوا المولد، ثم شبكة المياه. لم تكن معركة، بل عقوبة جماعية.”
كما تم استهداف مخازن الوقود، أسواق الغذاء، ومخازن الأدوية. وهناك أدلة موثقة على منع فرق الإصلاح من الوصول إلى المنشآت المتضررة، مما يبرز الطابع المنهجي للتدمير. هذا الاستهداف المتعمد للبنية التحتية المدنية يُعد انتهاكًا صارخًا لاتفاقيات جنيف، ويرقى إلى جريمة حرب بموجب القانون الإنساني الدولي.
ووفقًا لبرنامج الأغذية العالمي، فإن نحو 25 مليون سوداني—أي نصف السكان—يواجهون انعدامًا حادًا في الأمن الغذائي حتى مايو 2025، وقد دخلت 11 ولاية سودانية في مجاعة رسمية، من بينها دارفور الكبرى، النيل الأزرق، وولايات كردفان. وقد تم عرقلة وصول المساعدات الإنسانية بفعل الحصار أو غياب الممرات الآمنة، وتم تحويل الغذاء إلى أداة ضغط سياسي، يُحتجز بها الشعب رهينة للجوع.
وتفيد منظمة “أطباء بلا حدود” بأن 70% من المرافق الصحية السودانية خارج الخدمة. في المستشفيات القليلة المتبقية، تُجرى العمليات الجراحية دون أدوات تعقيم، ويمكث الجرحى على الأرض، ويُترك المصابون بلا علاج. تفشّت الأمراض المعدية مثل الكوليرا والحصبة وسوء التغذية الحاد في ظل غياب تام للاستجابة الطبية الرسمية أو الدولية.
أما الأطفال، فهم الضحايا المنسيون لهذه الكارثة. تشير تقارير اليونيسيف إلى أن أكثر من 17 مليون طفل باتوا خارج المدارس، وأن نحو 5 ملايين منهم بلا مأوى أو حماية. يُجنّد الكثيرون قسرًا، أو يتعرضون للاستغلال الجنسي، أو يُفصلون عن أسرهم. في كثير من المناطق، لا وجود لمدارس، ولا معلمين، ولا برامج دعم نفسي.
وفي غرب دارفور، وخاصة مدينة الجنينة، وثّقت الأمم المتحدة ومنظمة هيومن رايتس ووتش فظائع جماعية ترقى إلى الإبادة العرقية ضد قبيلة المساليت. خلال أسابيع فقط في منتصف عام 2023، قُتل أكثر من 15,000 مدني، غالبيتهم من المساليت، بعضهم أُعدم داخل منازله أو في مخيمات النزوح، وآخرون أُطلق عليهم الرصاص أثناء فرارهم سيرًا نحو الحدود التشادية. أُبلغ عن مقابر جماعية وجثث تُركت في الشوارع لأيام، بالإضافة إلى جرائم اغتصاب جماعي مروّعة ارتُكبت حتى داخل المدارس والمراكز الصحية. تشير التحقيقات الأولية إلى أن هذا العنف العرقي هو من أسوأ ما شهدته القارة منذ إبادة رواندا عام 1994. ومع ذلك، لم يُحاسب أحد، ولم تُفعّل أي لجنة تحقيق مستقلة، ولا آلية أممية جادة للعدالة.
إن هذا الصمت العالمي على مجازر المساليت يعكس تراجعًا خطيرًا في الالتزام الدولي بالعدالة. ويطرح تساؤلات موجعة: هل الأرواح الإفريقية أقلّ قيمة؟ هل الاستجابة العالمية تقررها المصالح لا المبادئ؟
رغم أن الوضع في السودان يُعد تهديدًا واضحًا لـالسلم والأمن الدوليين وفق المادة 39 من ميثاق الأمم المتحدة، إلا أن مجلس الأمن عجز على مدى عامين عن إصدار قرار ملزم واحد. هذا الفشل يعرّي الانحيازات داخل النظام الدولي ويُضعف مصداقيته، خصوصًا تجاه الدول التي لا تتمتع بثقل اقتصادي أو استراتيجي.
ولا تتوقف الكارثة عند حدود السودان. فهي تهدد استقرار المنطقة بأكملها. مصر تواجه ضغطًا متزايدًا على حدودها الجنوبية. تشاد تستضيف الآن أكثر من 600 ألف لاجئ. جنوب السودان يترنح نحو التفكك الداخلي. إن تجاهل هذه الحرب يفتح الباب أمام نزاع إقليمي مزمن.
أحد أسوأ أوجه القصور يتمثل في الغياب شبه التام للتغطية الإعلامية الدولية. فبينما تحظى حروب أوكرانيا أو غزة بتغطية مستمرة، يُترك السودان في الظل. لا تقارير ميدانية منتظمة، لا تحقيقات كبرى، ولا اهتمام تحريري متواصل. هذا الفراغ الإعلامي يغذي اللامبالاة الدولية ويمنح المجرمين مساحة للإفلات.
وفي المقابل، تلعب بعض القوى الإقليمية دورًا مزدوجًا: تدعو للسلام علنًا، بينما تُتّهم بتمويل وتسليح أطراف النزاع سرًا. وقد رصدت تقارير دولية دعمًا مباشراً أو غير مباشر من دول مجاورة لميليشيات مسلحة داخل السودان، في مشهد يعكس انهيارًا أخلاقيًا على المستوى الإقليمي.
أما الصحة النفسية، خاصة للنساء والأطفال، فهي غائبة بالكامل عن التدخلات الإنسانية. تسجل وكالات الإغاثة انتشارًا واسعًا للصدمة النفسية: أطفال يعانون من كوابيس وعزلة وعدوانية؛ نساء اغتُصبن أو فقدن أطفالهن دون أي دعم نفسي أو رعاية متخصصة. إذا لم يُتدارك الأمر، فإن السودان سيخرج من هذه الحرب بجيل محطّم نفسيًا، حتى بعد توقف القتال.
ما يحتاجه السودان اليوم ليس الشفقة، بل اعترافًا شجاعًا بحجم الكارثة، وإجراءات ملموسة. وعلى المجتمع الدولي أن:
يفرض وقفًا إنسانيًا فوريًا تحت إشراف الأمم المتحدة
يفتح ممرات إغاثية دائمة للمناطق المتضررة
يُطلق تحقيقًا دوليًا مستقلًا في جرائم الحرب
يُنشئ صندوق طوارئ للتعليم والصحة في مناطق النزوح
يُنفّذ عقوبات دولية ضد من يعيق وصول المساعدات
إن ما يحدث في السودان ليس حربًا صامتة، بل حربًا يُحيط بها الصمت.
وإذا لم يتحرّك العالم الآن، فلن يبقى شيء يُنقذ. والتاريخ لن يغفر لأولئك الذين شاهدوا أمةً تُباد أمام أعينهم—واختاروا الصمت.
خبير إدارة أزمات سوداني