أ. د. هاني الضمور: شاعرة القرن الواحد والعشرين

أ. د. هاني الضمور: شاعرة القرن الواحد والعشرين

ا. د. هاني الضمور

في زمنٍ باتت فيه الفجيعة خبزًا يوميًا، والموت خبرًا مكرورًا على الشاشات، خرجت من بين ركام غزة أمٌّ تحمل جراح أمة، لا جراحها وحدها. خرجت خنساء جديدة، ولكن ليست على صهوة ناقةٍ تندب أبناءها الأربعة كما فعلت تماضر بنت عمرو في الجاهلية، بل تقف شامخة وسط دخان الحرب وغبار القصف وقد ودّعت تسعة من أبنائها، أقمارًا تساقطت دفعة واحدة، وكل واحدٍ منهم عالمٌ من الحب والحياة.
خنساء القرن الحادي والعشرين، لم تبكِ كما يبكي الضعفاء، بل وقفت في قسم الطوارئ بمستشفى الشفاء — المكان الذي أعطته من وقتها وعلمها وعطفها — تودّع أبناءها التسعة، جثامين صغيرة وأرواح كبيرة، ارتقت نحو السماء كقناديل لا تنطفئ، تاركةً أمهم، الطبيبة والمربية والمناضلة، تصارع وجعًا لا يُحتمل وكرامةً لا تُقهر.
ما أقسى أن تحتضن أبناءك للمرة الأخيرة لا في غرفة نومهم، بل في أكياس الموتى. ما أصعب أن تحفظ ملامحهم جيدًا لأنك تعرف أن وجههم سيغيب عنك للأبد. ومع ذلك، لم تضعف، لم تصرخ، لم تسأل: “لماذا أنا؟”، بل وقفت تقول: “لقد نالوا الشرف، وأنا على العهد.”
في عيونها لم يكن الحزن وحده، بل الكبرياء النادر. تلك الكبرياء التي تُشبه الأنبياء، والتي لا تأتي إلا لمن جُرّبوا في أقسى المحن فخرجوا منها أنبياءً من نور، لا من لحم ودم فقط.
لقد قتلت الحرب أبناءها، لكنها لم تستطع أن تكسرها. هذه ليست مجرد أم، بل رمز. ليست فقط خنساء العصر، بل صرخة ضمير في وجه عالم أصمّ، غافل عن المذبحة المستمرة.
أمام هذا المشهد، تتساقط الكلمات، تتقزّم التعازي، وتبدو عبارات التضامن الرسمية كأنها صفعة أخرى على وجه هذه الأم العظيمة. من ذا الذي يمكنه أن يواسي أمًّا ارتقى تسعة من أولادها في لحظة واحدة؟ من يمكنه أن يشرح لطفل أنه أصبح وحده في الدنيا لأننا — نحن — فشلنا في حمايته؟
خنساء القرن الحادي والعشرين لا تعيش في صحراء، بل في عالم مزدحم بالمؤتمرات، والقرارات، والادعاءات، والخذلان. لكنها رغم ذلك، وقفت وحدها، تشهد على الجريمة، وتُعلّم العالم كله درسًا في الصبر والكرامة والثبات.
ستكتب كتب التاريخ يوماً أن أمًا فلسطينية في غزة، ودّعت أبناءها التسعة، ثم مشت بشموخها في جنازتهم، لا تتكئ إلا على إيمانها، ولا تبكي إلا حين تصلي.
وستظل خنساء القرن الحادي والعشرين، صوتًا خالدًا في ذاكرة الشعوب، وصورةً لا تُنسى في وجه الصمت العالمي.
كاتب اردني